التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

ثم ساق - سبحانه - من مظاهر قدرته ، ما يبطل تعجبهم فقال - تعالى - :

{ إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات . . . }

قال الإِمام الرازي ما ملخصه : " اعلم أنه - تعالى - لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة ثم إنه - تعالى - أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد ألبتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم وينذرهم . . كان هذا الجواب إنما يتم بإثبات أمرين :

أحدهما : إثبات أن لهذا العالم إلها قاهرا قادرا ، نافذ الحكم بالأمر والنهي .

والثاني : إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما .

فلا جرم أنه - سبحانه - ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين .

أما الأول : وهو إثبات الألوهية فبقوله - تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض . . . } .

وأما الثاني : فهو إثبات المعاد والحشر والنشر بقوله : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً . . . } .

فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن . ونهاية الكمال .

والمعنى : إن ربكم ومالك أمركم - الذي عجبتم من أن يرسل إليكم رسولا منكم هو الذي الذي خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام أى أوقات .

فالمراد من اليوم معناه اللغوي وهو مطلق الوقت .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن تلك الأيام من أيام الآخرة التي يوم منها كألف سنة مما تعدون .

قال الآلوسى : " وقيل هي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام ، لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدة اليسيرة ، ولأنه تعريف لنا بما نعرفه " .

وقال بعض العلماء : " ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة ، فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها ، وإنما ذكرت لبيان حكمة التدبير والتقدير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق ، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية .

وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله ، الذي لا مصرد لإدراكه إلا هذا المصدر ، فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه ، والمقصود بذكرها هو الإِشارة إلى حكمة التقدير والتدبير والنظام الذي يسير مع الكون من بدئه إلى منتهاه " .

وقال سعيد بن جبير : كان الله قادرا على أن يخلق السموات والأرض في لمحة ولحظة .

ولكنه - سبحانه - خلقهن في ستة أيام ، لكي يعلم عباده التثبت والتأني في الأمور .

وقوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } معطوف على ما قبله ، لتأكيد مزيد قدرته وعظمته - سبحانه - .

والاستواء من معانيه اللغوية الاستقرار ، ومنه قوله - تعالى - { واستوت عَلَى الجودي } أي : استقرت ، ومن معانيه - أيضاً - الاستيلاء والقهر والسلطان ، ومنه قول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق أي : استولى عليه .

وعرش الله - كما قال الراغب - مما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم وليس كما تذهب إليه أوهام العامة ، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له - تعالى الله عن ذلك - لا محمولا " .

وقد ذكر العرش في القرآن الكريم في إحدى وعشرين آية . وذكر الاستواء على العرش في سبع آيات .

أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة إلى أنه صفة الله - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه - سبحانه - بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عمالا يليق به فيجب الإِيمان بها كام وردت وتفويض العلم بحقيقتها إلى الله - تعالى - .

فعن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت في تفسر قوله - تعالى { الرحمن عَلَى العرش استوى } الكيف غير معقول ، والاستواء مجهول ، والإِقرار به من الإِيمان ، والجحود به كفر .

وقال الإِمام مالك : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

وقال محمد بن الحسن : اتفق الفقهاء جميعا على الإِيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه .

وقال الإِمام الرازي : " إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه " .

وذهب بعض علماء الخلف إلى وجوب صرف هذه الصفة وأمثالها عن الظاهر لاستحالة حملها على ما يفيده ظاهر اللفظ ، لأنه - سبحانه - مخالف للحوادث ، ووجوب حملها على ما يليق به - سبحانه - .

وعليه فإن الاستواء هنا : كناية عن القهر والعظمة والغلبة والسلطان وقوله : { يُدَبِّرُ الأمر } استنئاف مسوق لتقرير عظمته - سبحانه - ولبيان حكمة استوائه على العرش .

والتدبير معناه : النظر في أدبار الأموار وعواقبها لتقع على الوجه المحمود .

والمراد به هنا : ما يتعلق بأمور المخلوقات كلها من إنس وجن وغير ذلك من مخلوقاته التي لا تعد ولا تحصى .

أى أنه سبحانه يدبر أمر مخلوقاته تدبيرا حكيما ، حسبما تقتضيه إرادته وعبر بالمضارع في قوله : { يدبر } للإِشارة إلى تجدد التدبير واستمراره ، إذ أنه - سبحانه - لا يهمل شئون خلقه .

وقوله : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } استئناف آخر مسوق لبيان تفرده في تدبيره وأحكامه .

والشفيع مأخوذ من الشفيع وهو ضم الشيء إلى مثله ، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى منزلة إلى من هو أدنى منه لإِعانته على ما يريده .

والاستثناء هنا مفرغ من أعم الأوقات والأحوال . أي : ما من شفيع يستطيع أن يشفع لغيره في جميع الأوقات والأحوال إلا بعد إذنه - سبحانه - .

وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وقوله - سبحانه - : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ في السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى } واسم الإِشارة في قوله - سبحانه - { ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه } يعود إلى ذات الله - تعالى - الموصوفة بتلك الصفات الجليلة .

أى : ذلك الموصوف بالخلق والتدبير والتصرف في شئون خلقه وفق مشيئته ، هو الله ربكم فأخلصوا له العبادة والطاعة ولا تشركوا معه أحدا في ذلك .

ثم ختم - سبحانه - الآية بالأمر بالتذكر فقال : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : أتعلمون أن الله - تعالى - هو خالقكم وهو القادر على كل شيء ، ومع ذلك تستبعدون أن يكون الرسول نبيكم - صلى الله عليه وسلم - : وإيثار { تَذَكَّرُونَ } على تفكرون للإِيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر إلى عمق في التفكير والبحث والتأمل . إذ أن مظاهر قدرة الله وعظمته نراها واضحة جلية في الأنفس والآفاق .

وبذلك نرى الآية الكريمة قد ساقت ألوانا من مظاهر قدرة الله - تعالى - وبالغ حكمته ، ونفاذ أحكامه حتى يخلص له الناس العبادة والطاعة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه ، وأنه خَلَق السموات والأرض في ستة أيام - قيل : كهذه الأيام ، وقيل : كل يوم كألف سنة مما تعدون . كما سيأتي بيانه [ إن شاء الله تعالى ]{[14055]} ثم استوى على العرش ، والعرش أعظم المخلوقات وسقفها .

قال ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال : سمعت سعد{[14056]} الطائي يقول : العرش ياقوتة حمراء .

وقال وهب بن منبه : خلقه الله من نوره .

وهذا غريب .

{ يُدَبِّرُ الأمْرَ } أي : يدبر أمر الخلائق ، { لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ } [ سبأ : 3 ] ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا تغلّظه{[14057]} المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين{[14058]} ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير ، في الجبال والبحار والعمران والقفار ، { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] . { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] {[14059]} .

وقال الدراوردي ، عن سعد بن إسحاق بن كعب [ بن عجرة ]{[14060]} أنه قال حين نزلت هذه الآية : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } لقيهم ركب عظيم{[14061]} [ لا يرون إلا أنهم ]{[14062]} من العرب ، فقالوا لهم : من أنتم ؟ قالوا . من الجن ، خرجنا من المدينة ، أخرجتنا هذه الآية . رواه ابن أبي حاتم .

[ وقوله ]{[14063]} { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } كقوله تعالى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] وكقوله تعالى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ] وقوله : { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] .

وقوله : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } {[14064]} أي : أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } {[14065]} أي : أيها المشركون في أمركم ، تعبدون مع الله غيره ، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق ، كقوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ الزخرف : 87 ] ، وقوله : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } [ المؤمنون : 86 - 87 ] {[14066]} ، وكذا الآية التي قبلها والتي بعدها .


[14055]:- زيادة من أ.
[14056]:- في ت : "سعدا".
[14057]:- في ت ، أ : "ولا يغلطه".
[14058]:- في ت : "+بالألجاج الملجين".
[14059]:- في ت : "يسقط".
[14060]:- زيادة من ت ، أ.
[14061]:- في ت : "لقي - ثم بياض - ركبا عظيما".
[14062]:- زيادة من ت.
[14063]:- زيادة من ت ، أ.
[14064]:- في ت : "يتذكرون".
[14065]:- في ت : "يتذكرون".
[14066]:- في ت : "الله".