التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِي قَالَ لِوَٰلِدَيۡهِ أُفّٖ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيٓ أَنۡ أُخۡرَجَ وَقَدۡ خَلَتِ ٱلۡقُرُونُ مِن قَبۡلِي وَهُمَا يَسۡتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيۡلَكَ ءَامِنۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ فَيَقُولُ مَا هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (17)

وبعد أن ساق - سبحانه - هذه الصورة الوضيئة لأصحاب الجنة ، أتبع ذلك ببيان صورة سيئة لنوع آخر من الناس ، فقال - تعالى - : { والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ . . . وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } .

والاسم الموصول فى قوله - تعالى - : { والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } بمعنى الذين ، وهو مبتدأ وخبره قوله : { أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول . . } وهذا صريح فى أن المراد بقوله : { والذي } العموم وليس الإِفراد ، وهذا يدل - أيضا - على فساد قول من قال إن الآية نزلت فى شأن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق - رضى الله عنهما - والصحيح أنها فى حق كل كافر عاق لوالديه ، منكر للبعث .

قال ابن كثير عند تفسير لهذه الآية : وهذا عام فى كل من قال هذا ، ومن زعم أنها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر ، فقوله ضعيف ، لأن بعد الرحمن اسلم بعد ذلك ، وحسن إسلامه ، وكان من خيار أهل زمانه .

أخرج البخارى عن يوسف بن مَاهَك قال : كان مروان على الحجاز ، استعمله معاوية بن أبى سفيان ، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكى يبايع له بعد أبيه .

فقال له بعد الرحمن بن أبى بكر شيئا . . فقال مروان : إن هذا الذى أنزل فيه : { والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ . . . } .

فقالت عائشة من وراء حجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ، إلا أن الله أنزل عذرى . وفى رواية للنسائى أنها قالت : كذب مروان ، والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمى الذى نزلت فيه لسميته . .

ولفظ " أف " : اسم صوت ينبى عن التضجر ، أو اسم فعل مضارع هو أتضجر .

والمقصود به هنا : إظهار الملل والتأفف والكراهية لما يقوله أبواه من نصح له .

وقوله : { أتعدانني } فعل مضارع من وعد الماضى ، وحذف واوه فى المضارع مطرد .

والنون الأولى نوع الرفع ، والثانية نون الوقاية .

وقوله : { أَنْ أُخْرَجَ } : أن وما دخلت عليه فى تأويل مصدر هو المفعول الثانى لقوله : { أتعدانني } . أى : والذى قال لوالديه - على سبيل الإِنكار والإِعراض عن نصحهما - { أُفٍّ لَّكُمَآ } أى : أقول بعدا وكرها لقولكما ، أو إنى متضج من قولكما .

{ أتعدانني أَنْ أُخْرَجَ } أى : أتعذاننى الخروج من قبرى بعد أن أموت ، لكى أبعث وأحاسب على عملى ، والحال أنه { قَدْ خَلَتِ } أى : مضت { القرون } الكثيرة { مِن قَبْلِي } دون أن يخرج أحد منهم من قبره ، ودون أن يرجع بعد أن مات .

فالآية الكريمة تصور بوضوح ما كان عليه هذا الإِنسان ، من سوء أدب مع أبويه ، ومن إنكار صريح للبعث والحساب والجزاء .

ثم حكى - سبحانه - ما رد به الأبوان فقال : { وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } .

وقوله : { يَسْتَغثِيَانِ الله } أى : يلتمسان غوثه وعونه فى هداية هذا الإِنسان إلى الصراط المستقيم ، والجملة فى محل نصب على الحال .

ولفظ " ويلك " فى الأصل ، يقال فى الدعاء على شخص بالهلاك والتهديد .

والمراد به هنا : حض المخاطب على الإِيمان والطاعة لله رب العالمين .

أى : هذا هو حال الإِنسان العاق الجاحد ، أما حال أبواه ، فإنهما يفزعان لما قاله وترتعش أفئدتهما لهذا التطاول والصدود عن الحق ، فليجآن إلى الله ، ويلتمسان منه - سبحانه - الهداية لابنهما ، ويحضان هذا الابن على الإِيمان بوحدانية الله - تعالى - ، وبالبعث والحساب والجزاء ، فيقولان له : { وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } ولا خلف فيه ، ولا راد له . .

والمتأمل فى هذه الجملة الكريمة يراها تصور لهفة الوالدين على إيمان ولدهما أكمل تصوير ، فهو يلتمسان من الله له الهداية ، ثم يهتفان بهذا الابن العاف بفزع أن يترك هذا الجحود ، وأن يبادر إلى الإِيمان بالحق . .

ولكن الابن العاق يصر على كفره ، ويلج فى جحوده : { فَيَقُولُ } فى الرد على أبويه { مَا هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } . أى : ما هذا الذى تعداننى إياه من البعث والحساب والجزاء . . إلا أباطيل الأولين وخرافاتهم التى سطروها فى كتبهم .

فالأساطير : جمع أسطورة ، وهى ما سجله الأقدمون فى كتبهم من خرافات وأكاذيب .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱلَّذِي قَالَ لِوَٰلِدَيۡهِ أُفّٖ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيٓ أَنۡ أُخۡرَجَ وَقَدۡ خَلَتِ ٱلۡقُرُونُ مِن قَبۡلِي وَهُمَا يَسۡتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيۡلَكَ ءَامِنۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ فَيَقُولُ مَا هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (17)

لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة ، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا } - وهذا عام في كل من قال هذا ، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر فقوله ضعيف ؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه ، وكان من خيار أهل زمانه .

وروى العَوْفي ، عن ابن عباس : أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق . وفي صحة هذا نظر ، والله أعلم .

وقال ابن جُرَيْج ، عن مجاهد : نزلت في عبد الله بن أبي بكر . وهذا أيضا قاله ابن جريج .

وقال آخرون : عبد الرحمن بن أبي بكر . وقاله{[26429]} السدي . وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق ، فقال لوالديه : { أُفٍّ لَكُمَا } عقهما .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، أخبرني عبد الله بن المديني قال : إني لفي المسجد حين خطب مَرْوان ، فقال : إن الله أرى{[26430]} أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا ، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر عمر ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : أهرقلية ؟ ! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده ، ولا أحدا من أهل بيته ، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده . فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه : أف لكما ؟ فقال عبد الرحمن : ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك ؟ قال : وسمعتهما عائشة فقالت : يا مروان ، أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا ؟ كذبتَ ، ما فيه نزلت ، ولكن نزلت في فلان بن فلان . ثم انتحب مروان ، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها ، فجعل يكلمها حتى انصرف {[26431]} .

وقد رواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر ، فقال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عَوانة ، عن أبي بِشْر ، عن يوسف بن مَاهَك قال : كان مَرْوان على الحجاز ، استعمله معاوية بن أبي سفيان ، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا ، فقال : خذوه . فدخل بيت عائشة ، رضي الله عنها ، فلم يقدروا عليه ، فقال {[26432]} مروان : إن هذا الذي أنزل فيه : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن ، إلا أن الله أنزل عُذرِي{[26433]} .

طريق أخرى : قال النسائي : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أميَّة بن خالد ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن زياد قال : لما بايع معاوية لابنه ، قال مروان : سُنَّة أبي بكر وعمر . فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : سُنَّة هرقل وقيصر . فقال مروان : هذا الذي أنزل الله فيه : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا } الآية ، فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب مروان ! والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروانُ في صلبه ، فمروان فَضَضٌ{[26434]} من لعنة الله{[26435]} .

وقوله : { أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } أي : [ أن ] {[26436]} أبعث { وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي } أن {[26437]} قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر ، { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ } أي : يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لولدهما : { وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ }


[26429]:- (1) في ت، م: "وهذا قول".
[26430]:- (2) في م، أ: "الله قد أرى".
[26431]:- (3) ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في الدر المنثور (7/444).
[26432]:- (4) في أ: "فلم يقدر عليه فقام فقال".
[26433]:- (5) صحيح البخاري برقم (4827).
[26434]:- (1) في أ: "بعض".
[26435]:- (2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11491).
[26436]:- (3) زيادة من ت.
[26437]:- (4) في ت، أ: "أي".