ثم أخذت السورة الكريمة تسوق فى أواخرها بعض أشراط الساعة وعلاماتها ، وأهوالها ، لكى تعتبر النفوس ، وتخشع لله - تعالى - . فقال - عز وجل - : { وَإِذَا وَقَعَ . . . } .
قال الإِمام ابن كثير : هذه الدابة تخرج فى آخر الزمان عند فساد الناس ، وتركهم أوامر الله ، وتبديلهم الدين الحق ، يخرج الله لهم دابة من الأرض قيل : من مكة ، وقيل من غيرها .
ثم ذكر - رحمه الله - جملة من الأحاديث فى هذا المعنى منها : ما رواه مسلم عن حذيفة بن اسيد الغفارى قال : " أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفته ، ونحن نتذاكر أمر الساعة فقال : لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى بن مريم ، والدجال ، و ثلاثة خسوف : خسف بالمغرب ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن ، تسوق - أو تحشر - الناس ، تبيت معهم حيث باتوا - وتقيل معهم حيث قالوا " .
والدابة : اسم لكل حيوان ذى روح ، سواء أكان ذكرا أم أنثى ، عاقلا أم غير عاقل ، من الدبيب وهو فى الأصل : المشى الخفيف ، واختصت فى العرف بذوات القوائم الاربع .
والمراد بوقوع القول عليهم : قرب قيام الساعة ، وانتهاء الوقت الذى يقبل فيه الإيمان من الكافر . أو الذى تنفع فيه التوبة .
والمعنى إذا دنا وقت قيام الساعة . وانتهى الوقت الذى ينفع فيه الإيمان أو التوبة . . أخرجنا للناس بقدرتنا وإرادتنا ، دابة من الأرض تكلمهم ، فيفهمون كلامها ، ويعرفون أن موعد قيام الساعة قد اقترب . و { أَنَّ الناس } أى : الكافرين { كَانُوا بِآيَاتِنَا } الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا { لاَ يُوقِنُونَ } بها ، ولا يصدقون أن هناك بعثا وحسابا .
فخروج الدالة علامة من علامات الساعة الكبرى ، يخرجها الله - عز وجل - ليعلم الناس قرب انتهاء الدنيا وأن الحساب العادل للمؤمنين والكافرين ، آت لا شك فيه ، وأن التوبة لن تقبل فى هذا الوقت ، لأنها جاءت فى غير وقتها المناسب .
وقد ذكر بعض المفسرين أوصافا كثيرة ، منها أن طولها ستون ذارعا وأن رأسها رأس ثور ، وأذنها أذن فيل ، وصدرها صدر اسد . . الخ .
ونحن نؤمن بأن هناك دابة تخرج فى آخر الزمان ، وأنها تكلم الناس بكيفية يعلمها الله - عز وجل - أمَّا ما يتعلق بالمكان الذى تخرج منه هذه الدابة ، وبالهيئة التى تكون عليها من حيث الطول والقصر ، فنكل ذلك إلى علمه - سبحانه - حيث لم يرد حديث صحيح يعتمد عليه فى بيان ذلك .
بعد ذلك يجول بهم جولة أخرى في أشراط الساعة ، وبعض مشاهدها ، قبل الإيقاع الأخير الذي يختم به السورة . . جولة يذكر فيها ظهور الدابة التي تكلم الناس الذين كانوا لا يؤمنون بآيات الله الكونية . ويرسم مشهدا للحشر والتبكيت للمكذبين بالآيات وهم واجمون صامتون . ويعود بهم من هذا المشهد إلى آيتي الليل والنهار المعروضتين للأبصار وهم عنها غافلون . ثم يرتد بهم ثانية إلى مشهد الفزع يوم ينفخ في الصور ، ويوم تسير الجبال وتمر مر السحاب ؛ ويعرض عليهم مشهد المحسنين آمنين من ذلك الفزع ، والمسيئين كبت وجوههم في النار :
( وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم ، أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ) .
ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون . حتى إذا جاءوا قال : أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما ? أم ماذا كنتم تعملون ? ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون .
( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ? إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . )
( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، وكل أتوه داخرين . وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب . صنع الله الذي أتقن كل شيء ، إنه خبير بما تفعلون . من جاء بالحسنة فله خير منها ، وهم من فزع يومئذ آمنون . ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار . هل تجزون إلا ما كنتم تعملون ? ) . .
وقد ورد ذكر خروج الدابة المذكورة هنا في أحاديث كثيرة بعضها صحيح ؛ وليس في هذا الصحيح وصف للدابة . إنما جاء وصفها في روايات لم تبلغ حد الصحة . لذلك نضرب صفحا عن أوصافها ، فما يعني شيئا أن يكون طولها ستين ذراعا ، وأن تكون ذات زغب وريش وحافر ، وأن يكون لها لحية ! وأن يكون رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل . وقرنها قرن أيل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لو نمر ، وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير . . . إلخ هذه الأوصاف التي افتن فيها المفسرون !
وحسبنا أن نقف عند النص القرآني والحديث الصحيح الذي يفيد أن خروج الدابة من علامات الساعة ، وأنه إذا انتهى الأجل الذي تنفع فيه التوبة وحق القول على الباقين فلم تقبل منهم توبة بعد ذلك وإنما يقضى عليهم بما هم عليه . . عندئذ يخرج الله لهم دابة تكلمهم . والدواب لا تتكلم ، أو لا يفهم عنها الناس . ولكنهم اليوم يفهمون ، ويعلمون أنها الخارقة المنبئة باقتراب الساعة . وقد كانوا لا يؤمنون بآيات الله ، ولا يصدقون باليوم الموعود .
ومما يلاحظ أن المشاهد في سورة النمل مشاهد حوار وأحاديث بين طائفة من الحشرات والطير والجن وسليمان عليه السلام . فجاء ذكر( الدابة )وتكليمها الناس متناسقا مع مشاهد السورة وجوها ، محققا لتناسق التصوير في القرآن ، وتوحيد الجزيئات التي يتألف منها المشهد العام .
ومعنى قوله { وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض } ، إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله تعالى في ذلك أي حتمه عليهم ، وقضاؤه{[9071]} وهذا بمنزلة قوله تعالى :
{ حقت كلمة العذاب }{[9072]} [ الزمر : 71 ] فمعنى الآية وإذا أراد الله أن ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب أخرج لهم دابة من الأرض ، وروي أن ذلك حين ينقطع الخير ولا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يبقى منيب ولا تائب ، كما أوحى الله إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن{[9073]} ، ووقع ، عبارة عن الثبوت واللزوم{[9074]} وفي الحديث أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب من أول الأشراط وإن لم تعين الأولى وكذلك الدجال{[9075]} .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر الأحاديث والروايات أن الشمس آخرها لأن التوبة تنقطع معها وتعطي الحال أن الإيمان لا يبقى إلا في أفراد ، وعليهم تهب الريح التي لا تبقي إيماناً وحينئذ ينفخ في الصور ، ونحن نروي أن الدابة تسم قوماً بالإيمان{[9076]} وتجد أن عيسى ابن مريم يعدل بعد الدجال ويؤمن الناس به وهذه الدابة روي أنها تخرج من جبل الصفا بمكة قاله عبد الله بن عمر ، وقال عبد الله بن عمرو نحوه ، وقال : لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت ، وروي عن قتادة أنها تخرج تهامة ، وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليه السلام ، وروى بعضهم عن حذيفة بن اليمان أنها تخرج ثلاث خرجات{[9077]} ، وروي أنها دابة مزغبة شعراء ، وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين وهي في السحاب وقوائمها في الأرض ، وروي أنها جمعت من خلق كل حيوان ، وذكر الثعلبي عن أبي الزبير نحوه ، وروي أنها دابة مبثوث نوعها في الأرض فهي تخرج في كل بلد وفي كل قوم ، فعلى هذا التأويل { دابة } إنما هو اسم جنس ، وحكى النقاش عن ابن عباس أنها الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة ، وقرأ جمهور الناس «تكلمهم » من الكلام ، وفي مصحف أبيّ «تنبئهم » ، وفسرها عكرمة ب ( تسمهم ) قال قتادة : وفي بعض القراءة تحدثهم .
وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جريج{[9078]} «تكلِمهم »{[9079]} بكسر اللام من الكلم وهو الجرح ، قال أبو الفتح : وهي قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري ، وقال ابن عباس : كلا والله تفعل تكلمهم وتكلمهم{[9080]} .
قال القاضي أبو محمد : وروي في هذا أنها تمر على الناس فتسم الكافر في جبهته وتزجره وتشتمه وربما حطمته{[9081]} وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه ويعرف بعد ذلك الإيمان والكفر من أثرها ، وقرأ جمهور القراء «إن الناس » بكسر «إن » وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «أن » بفتح الألف ، وفي قراءة عبد الله «تكلمهم بأن » وهذا تصديق للفتح ، وعلى هذه القراءة يكون قوله { إن الناس } إلى آخر القراءة من تمام كلام الدابة ، وروي ذلك عن ابن عباس ويحتمل أن يكون ذلك من كلام الله عز وجل .
هذا انتقال إلى التذكير بالقيامة وما ادخر لهم من الوعيد . فهذه الجملة معطوفة على الجمل قبلها عطف قصة على قصة . ومناسبة ذكرها ما تقدم من قوله { إنك لا تسمع الموتى } إلى قوله { عن ضلالتهم } [ النمل : 80 ، 81 ] . والضمير عائد إلى الموتى والصم والعمي وهم المشركون .
و { القول } أريد به أخبار الوعيد التي كذبوها متهكمين باستبطاء وقوعها بقولهم { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ النمل : 71 ] ، فالتعريف فيه للعهد يفسره المقام .
والوقوع مستعار لحلول وقته وذلك من وقت تهيؤ العالم للفناء إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار .
والآية تشير إلى شيء من أشراط حلول الوعيد الذي أنذروا به وهو الوعيد الأكبر يعني وعيد البعث ، فتشير إلى شيء من أشراط الساعة وهو من خوارق العادات . والتعبير عن وقوعه بصيغة الماضي لتقريب زمن الحال من المضي ، أي أشرف وقوعه ، على أن فعل المضي مع ( إذا ) ينقلب إلى الاستقبال .
والدابة : اسم للحي من غير الإنسان ، مشتق من الدبيب ، وهو المشي على الأرض وهو من خصائص الأحياء . وتقدم الكلام على لفظ { دابة } في سورة الأنعام ( 38 ) . وقد رويت في وصف هذه الدابة ووقت خروجها ومكانه أخبار مضطربة ضعيفة الأسانيد فانظرها في « تفسير القرطبي » وغيره إذ لا طائل في جلبها ونقدها .
وإخراج الدابة من الأرض ليريهم كيف يحي الله الموتى إذ كانوا قد أنكروا البعث . ولا شك أن كلامها لهم خطاب لهم بحلول الحشر . وإنما خلق الله الكلام لهم على لسان دابة تحقيراً لهم وتنديماً على إعراضهم عن قبول أبلغ كلام وأوقعه من أشرف إنسان وأفصحه ، ليكون لهم خزياً في آخر الدهر يعيرون به في المحشر . فيقال : هؤلاء الذين أعرضوا عن كلام رسول كريم فخوطبوا على لسان حيوان بهيم . على نحو ما قيل : استفادة القابل من المبدإ تتوقف على المناسبة بينهما .
وجملة { إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } تعليل لإظهار هذا الخارق للعادة حيث لم يوقن المشركون بآيات القرآن فجعل ذلك إلجاء لهم حين لا ينفعهم .
وقرأ الجمهور { إن الناس } بكسر همزة ( إن ) ، وموقع ( إن ) في مثل هذا التعليل . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي { أن الناس } بفتح الهمزة وهي أيضاً للتعليل لأن فتح همزة ( أن ) يؤذن بتقدير حرف جر وهو باء السببية ، أي تكلمهم بحاصل هذا وهو المصدر . والمعنى : أنها تسجل على الناس وهم المشركون عدم تصديقهم بآيات الله . وهو تسجيل توبيخ وتنديم لأنهم حينئذ قد وقع القول عليهم ف { لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل } [ الأنعام : 158 ] . وحمل هذه الجملة على أن تكون حكاية لما تكلمهم به الدابة بعيد .