التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

ثم بين - سبحانه - حال طائفة أخرى من الناس ، كانا على النقيض من سابقيهم ، فقال : { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي . . . فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .

قد ذكر المفسرون فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات اشهرها ، أنهما نزلتا فى النضر بن الحارث . اشترى قينة - أى مغنية - ، وكان لا يسمع بأحد يريد الإِسلام إلا انطلق به إلى قينته ، فيقول لها : أطعميه واسقيه وغنيه ، فهذا خير مما يدعوك إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الصلاة والصيام ، وأن تقاتل بين يديه .

و { لَهْوَ الحديث } : باطله ، ويطلق على كل كلام يلهى القلب ، ويشغله عن طاعة الله - تعالى - ، كالغناء ، والملاهى ، وما يشبه ذلك مما يصد عن ذكر الله - تعالى - :

وقد فسر كثير من العلماء بالغناء ، والأفضل تفسيره بكل حديث لا يثمر خيرا .

و { مِنَ } فى قوله { وَمِنَ الناس } للتبعيض ، أى : ومن الناس من يترك القول الذى ينفعه ، ويشترى الأحاديث الباطلة ، والخرافات الفاسدة .

قال القرطبى ما ملخصه : هذه إحدى الآيات التى استدل بها العلماء على كارهة الغناء والمنع منه . ولا يختلف فى تحريم الذى يحرك النفوس ، ويبعثها على الغزل والمجون . . فأما ما سلم من ذلك ، فيجوز القليل منه فى أوقات الفرح ، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان فى حفر الخندق . .

وقوله : { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } تعليل لاشتراء لهو الحديث . والمراد بسبيل الله - تعالى - : دينه وطريقه الذى اختاره لعباده .

وقد قرأ الجمهور : { ليُضل } بضم الياء - أى : يشرتى لهو الحديث ليضل غيره عن صراط الله المستقيم ، حالة كونه غير عالم بسوء عاقبة ما يفعله ، ولكى يتخذ آيات الله - تعالى - مادة لسخريته واستهزائه .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { ليَضل } - بفتح الياء - فيكون المعنى : يشترى لهو الحديث ليزداد رسوخا فى ضلاله .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : القراءة بالضمر بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو ، أن يصد الناس عن الدخول فى الإِسلام واستماع القرآن ، ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح ؟ .

قلت : فيه معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذى كان عليه ، ولا يصدف عنه ، ويزيد فيه ويمده فإن المخذوف كان شتديد الشكيمة فى عداوة الدين وصد الناس عنه . والثانى : أن بوضع ليضَل موضع ليضُل ، من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف . .

وقوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } بيان لسوء عاقبة من يؤثر الضلالة على الهداية .

أى : أولئك الذين يشترون لهو الحديث ، ليصرفوا الناس عند دين الله - تعالى - ، وليستهزئوا بآياته ، لهم عذاب يهينهم ويذلهم ، ويجعلهم محل الاحتقار والهوان .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

أولئك المهتدون بالكتاب وآياته ، المحسنون ، المقيمون للصلاة ، المؤتون للزكاة ، الموقنون بالآخرة ، المفلحون في الدنيا والآخرة . . أولئك فريق . . وفي مقابلهم فريق :

( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا . أولئك لهم عذاب مهين . وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها ، كأن في أذنيه وقرا . فبشره بعذاب أليم ) . .

ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت ، ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه ا لأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح . هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها ، ويرسم لها الطريق . والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان . وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويرا لحادث معين في الجماعة الإسلامية الأولى . وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم ؛ ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] محاولا أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم . ولكن النص أعم من هذا الحادث الخاص إذا صح أنه وارد فيه . وهو يصور فريقا من الناس واضح السمات ، قائما في كل حين . وقد كان قائما على عهد الدعوة الأولى في الوسط المكي الذي نزلت فيه هذه الآيات .

( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) . . يشتريه بماله ويشتريه بوقته ، ويشتريه بحياته . يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص ، يفني فيه عمره المحدود ، الذي لا يعاد ولا يعود ، يشتري هذا اللهو ( ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ) فهو جاهل محجوب ، لا يتصرف عن علم ، ولا يرمي عن حكمة وهوسيىء النية والغاية ، يريد ليضل عن سبيل الله . يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة . وهو سيىء الأدب يتخذ سبيل الله هزوا ، ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس . ومن ثم يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة : ( أولئك لهم عذاب مهين ) . . ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

وقوله تعالى : { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } روي أنها نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء محمد صلى الله عليه وسلم وسبه فنزلت الآية في ذلك ، وقيل إنه ابن خطل وروي عن أبي أمامة الباهلي بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «شراء المغنيات وبيعهن حرام » وقرأ هذه الآية ، وقال في هذا المعنى أنزلت علي هذه الآية{[9346]} ، وبهذا فسر ابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد ، وقال الحسن { لهو الحديث } المعازف والغناء ، وقال بعض الناس نزلت في النضر بن الحارث لأنه اشترى كتب رستم واسفنديار ، وكان يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحدثهم بتلك الأباطيل ويقول أنا أحسن حديثاً من محمد{[9347]} ، وقال قتادة : الشراء في هذه الآية مستعار ، وإنما نزلت الآية في أحاديث قريش وتلهيهم بأمر الإسلام وخوضهم في الأباطيل .

قال الفقيه الإمام القاضي : فكأن ترك ما يجب وامتثال هذه المنكرات شراء لها على حد قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى }{[9348]} [ البقرة : 16 ، 175 ] ، وقد قال مطرف : شراء { لهو الحديث } استحبابه ، قال قتادة ولعله لا ينفق فيه مالاً ولكن سماعه هو شراؤه ، وقال الضحاك { لهو الحديث } الشرك ، وقال مجاهد أيضاً { لِهو الحديث } الطبل وهذا ضرب من الغناء .

قال الفقيه الإمام القاضي : والذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث منضاف إلى كفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله : { ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً } ، والتوعد بالعذاب المهين ، وأما لفظة الشراء فمحتملة للحقيقة والمجاز على ما بينا ، و { لهو الحديث } كل ما يلهي من غناء وخنى ونحوه ، والآية باقية المعنى في أمة محمد ولكن ليس ليضلوا عن سبيل الله بكفر ولا يتخذوا الآيات هزواً ولا عليهم هذا الوعيد ، بل ليعطل عبادة ويقطع زماناً بمكروه ، وليكون من جملة العصاة والنفوس الناقصة تروم تتميم ذلك النقص بالأحاديث وقد جعلوا الحديث من القربى ، وقيل لبعضهم أتمل الحديث ؟ قال : إنما يمل العتيق .

قال الفقيه الإمام القاضي : يريد القديم المعاد ، لأن الحديث من الأحاديث فيه الطرافة التي تمنع من الملل ، وقرأ نافع وعاصم والحسن وجماعة «ليُضل » بضم الياء .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتحها ، وفي حرف أبيّ «ليضل الناس عن سبيل الله » ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «ويتخذَها » بالنصب عطفاً على { ليضل } ، وقرأ الباقون «ويتخذُها » بالرفع عطفاً على { يشتري }{[9349]} ، والضمير في { يتخذها } يحتمل أن يعود على { الكتاب } المذكور أولاً ويحتمل أن يعود على السبيل ، ويحتمل أن يعود على الأحاديث لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث ، وكذلك { سبيل الله } اسم جنس ولكن وجه من الحديث وجه يليق به من السبيل .


[9346]:أخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والترمذي، وابن ماجه،وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام، في مثل هذا أنزلت الآية {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} إلى آخر الآية. (الدر المنثور). وفي ابن كثير: ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب، وضعف من رواته علي بن زيد".
[9347]:قال القرطبي: "حكاه الفراء والكلبي وغيرهما" وجاء ذلك في أسباب النزول للواحدي عن الكلبي ومقاتل بدون سند، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} يعني باطل الحديث، وهو النضر بن الحارث بن علقمة، اشترى أحاديث العجم وصنيعهم في دهرهم، وكان يكتب الكتب من الحيرة والشام ويكذب القرآن، فأعرض عنه فلم يؤمن.
[9348]:من الآية 16 من سورة البقرة.
[9349]:ويجوز أن يكون مستأنفا.