وقوله - تعالى - : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } مدح وتكريم لهؤلاء الرجال .
أى : يسبح الله - تعالى - فى تلك المساجد بالغدو والآصال ، رجال من شأنهم ومن صفاتهم ، أنهم لا يشغلهم ، " تجارة " مهما عظمت ، " ولا بيع " ، مهما اشتدت حاجتهم إليه " عن ذكر الله " أى : عن تسبيحه وتحميده وتكبيره وتمجيده وطاعته .
ولا تشغلهم - أيضا - هذه التجارات والبيوع عن " إقام الصلاة " فى مواقيتها بخشوع وإخلاص ، وعن " إيتاء الزكاة " للمستحقين لها .
وذلك لأنهم " يخافون يوما " هائلا شديدا هو يوم القيامة الذى " تتقلب فيه القلوب والأبصار " أى تضطرب فيه القلوب والأبصار فلا تثبت من شدة الهول والفزع .
قلوب الرجال الذين ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) . . والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثراء . ولكنهم مع شغلهم بهما لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة ، وأداء حق العباد في الزكاة : ( يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ) . . تتقلب فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب . وهم يخافون ذلك اليوم فلا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .
{ رجال لا تلهيهم تجارة } لا تشغلهم معاملة رابحة . { ولا بيع عن ذكر الله } مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعارضة ، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء ، وقيل المراد بالتجارة الشراء فإنه أصلها ومبدؤها ، وقيل الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال تجر في كذا إذا جلبه وفيه إيماء بأنهم تجار . { وإقام الصلاة } عوض فيه الإضافة من التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال كقوله :
*** وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا ***
{ وإيتاء الزكاة } ما يجب إخراجه من المال للمستحقين . { يخافون يوما } مع ما هم عليه من الذكر والطاعة . { تتقلب فيه القلوب والأبصار } تضطرب وتتغير من الهول ، أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصره ، أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتبهم .
المراد بالرجال : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان مثلهم في التعلق بالمساجد .
وتخصيص التسبيح بالرجال على هذا لأنهم الغالب على المساجد كما في الحديث : « . . . ورجلٌ قلبه معلق بالمساجد » . ويجوز عندي أن يكون { في بيوت } خبراً مقدماً و { رجال } مبتدأ ، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله : { يهدي الله لنوره من يشاء } [ النور : 35 ] فيسأل السائل في نفسه عن تعيين بعض ممن هداه الله لنوره فقيل : رجال في بيوت . والرجال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيوت مساجد المسلمين وغيرها من بيوت الصلاة في أرض الإسلام والمسجد النبوي ومسجد قباء بالمدينة ومسجد جؤاثى بالبحرين .
ومعنى { لا تلهيهم تجارة } أنهم لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن الصلوات وأوقاتها في المساجد . فليس في الكلام أنهم لا يتجرون ولا يبيعون بالمرة .
والتجارة : جلب السلع للربح في بيعها ، والبيع أعم وهو أن يبيع أحد ما يحتاج إلى ثمنه .
وقرأ الجمهور : { يسبح } بكسر الموحدة بالبناء للفاعل و { رجال } فاعله . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح الموحدة على البناء للمجهول فيكون نائب الفاعل أحد المجرورات الثلاثة وهي { له فيها بالغدو } ويكون { رجال } فاعلاً بفعل محذوف من جملة هي استئناف . ودل على المحذوف قوله : { يسبّح } كأنه قيل : من يسبحه ؟ فقيل : يُسبح له رجال . على نحو قول نهشل بن حَريّ يرثي أخاه يزيد :
لِيُبْكِ يزيدُ ضارعٌ لخصومة *** ومختبطٌ مما تُطيح الطوائح
وجملة : { لا تلهيهم تجارة } وجملة : { يخافون } صفتان ل { رجال } ، أي لا يشغلهم ذلك عن أداء ما وجب عليهم من خوف الله { وإقام الصلاة } الخ وهذا تعريض بالمنافقين .
و { إقام } مصدر على وزن الإفعال . وهو معتل العين فاستحق نقل حركة عينه إلى الساكن الصحيح قبله وانقلاب حرف العلة ألفاً إلا أن الغالب في نظائره أن يقترن آخره بهاء تأنيث نحو إدامة واستقامة . وجاء مصدر { إقام } غير مقترن بالهاء في بعض المواضع كما هنا . وتقدم معنى إقامة الصلاة في صدر سورة البقرة ( 3 ) .
وانتصب { يوماً } من قوله : { يخافون يوماً } على المفعول به لا على الظرف بتقدير مضاف ، أي يخافون أهواله .
وتقلّب القلوب والأبصار : اضطرابها عن مواضعها من الخوف والوجل كما يتقلب المرء في مكانه . وقد تقدم في قوله تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } في سورة الأنعام ( 110 ) . والمقصود من خوفه : العمل لما فيه الفلاح يومئذٍ كما يدل عليه قوله : { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ" يقول تعالى ذكره: لا يشغل هؤلاء الرجال الذي يصلّون في هذه المساجد التي أذن الله أن ترفع عن ذكر الله فيها وإقام الصلاة، تجارة ولا بيع...
وقال بعضهم: معنى ذلك: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عن صلاتهم المفروضة عليهم...
وقوله: "وَإقامِ الصّلاةِ "يقول: ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها في أوقاتها...
وقوله: "وَإيتاءِ الزّكاةِ" قيل: معناه: وإخلاص الطاعة لله...
وقوله: "يخافُونَ يَوْما تَتَقَلّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصَارُ" يقول: يخافون يوما تتقلب فيه القلوب من هوله، بين طمع بالنجاة وحذر بالهلاك. والأبصار: أيّ ناحية يؤخذ بهم: أذات اليمين أم ذات الشمال؟ ومن أين يُؤْتون كتبهم: أمن قِبَل الأيمان أو من قبل الشمائل؟ وذلك يوم القيامة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار" وهو يوم القيامة. يخبر عن شدة هول ذلك اليوم وخوفه، لا تثبت القلوب والأبصار فزعا منه وخوفا...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} قال أهل المعاني: إنّما خصّ التجارات لأنّها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلوات وسائر الطاعات...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} قال الكلبي: التجار هم الجلاب المسافرون، والباعة هم المقيمون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
التجارة: صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشتري للربح، فإما أن يريد: لا يشغلهم نوع من هذه الصناعة، ثم خصّ البيع لأنه في الإلهاء أدخل، من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة وهي طلبته الكلية من صناعته ألهته ما لا يلهيه شراء شيء يتوقع فيه الربح في الوقت الثاني، لأن هذا يقين وذاك مظنون، وإمّا أن يسمى الشراء تجارة، إطلاقاً لاسم الجنس على النوع، كما تقول: رزق فلان تجارة رابحة، إذا اتجه له بيع صالح أو شراء. وقيل: التجارة لأهل الجلب، اتجر فلان في كذا: إذا جلبه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم لرضاه لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا، وقال كثير من الصحابة نزلت هذه الآية في أَهل الأَسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال هؤلاء الذين أراد الله تعالى بقوله: {لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}، وروي ذلك عن ابن مسعود...
{رجال} مرفوع لأنه لما قال {يسبح له فيها} فكأنه قيل من يسبح؟ فقيل يسبح رجال...لم خص الرجال بالذكر؟
والجواب: لأن النساء لسن من أهل التجارات أو الجماعات...
إنه سبحانه بيّن أن هؤلاء الرجال وإن تعبدوا بذكر الله والطاعات فإنهم مع ذلك موصوفون بالوجل والخوف فقال: {يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} وذلك الخوف إنما كان لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{رجال} أيّ رجال {لا تلهيهم تجارة} أي ببيع أو شرى أو غيرهما، يظهر لهم فيها ربح.
ولما كان الإنسان قد يضطر إلى الخروج بالبيع عن بعض ما يملك للاقتيات بثمنه أو التبلغ به إلى بعض المهمات التي لا وصول له إليها إلا به، أو بتحصيل ما لا يملك كذلك مع أن البيع في التجارة أيضاً هو الطلبة الكلية لأنه موضع تحقق الربح الذي لا صبر عنه، قال: {ولا بيع} أي وإن لم يكن على وجه التجارة، والبيع يطلق بالاشتراك على التحصيل الذي هو الشرى وعلى الإزالة {عن ذكر الله} أي الذي له الجلال والإكرام مطلقاً بصلاة وغيرها، فهم في كل وقت في شهود ومراقبة لمن تعرف إليهم بصفات الكمال {و} لا يلهيهم ذلك عن {إقام الصلاة} التي هي طهرة الأرواح، أعادها بعد ذكرها بالتسبيح تصريحاً بها تأكيداً لها وحثاً على حفظ وقتها لأنه من جملة مقوماتها وكذا جميع حدودها ولو بأوجز ما يكون من أدنى الكمال -بما أشار إليه حرف التاء إشعاراً بأن هذا المدح لا يتوقف على أنهى الكمال {و} لا عن {إيتاء الزكاة} التي هي زكاء الأشباح ونماؤها، وخص الرجال مع أن حضور النساء المساجد سنة شهيرة، إشارة إلى أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لما روى أبو داود في سننه وابن خزيمة في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها "والمخدع: الخزانة. وللإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"خير مساجد النساء قعر بيوتهن "ولأحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أم حميدة امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنهما أنها قالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، قال:"قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي"، قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل.
ولما وصف الرجال المذكورين بما وصفهم به، ذكر علة فعلهم لذلك زيادة في مدحهم فقال: {يخافون يوماً} وهو يوم القيامة، هو بحيث {تتقلب فيه} أي لشدة هوله، تقلباً ظاهراً- بما اشار إليه إثبات التاءين {القلوب والأبصار} أي بين طمع في النجاة، وحذر من الهلاك...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض، فيكون قوله: {وَلَا بَيْعٌ} من باب عطف الخاص على العام، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره، فهؤلاء الرجال، وإن اتجروا، وباعوا، واشتروا، فإن ذلك، لا محذور فيه. لكنه لا تلهيهم تلك، بأن يقدموها ويؤثروها على {ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم، ونهاية مقصدهم، فما حال بينهم وبينها رفضوه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقوله تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}، إن اتصال هذه الآية بما قبلها إعرابا وبيانا للمعاني واضح، لأن {رجال} فاعل ل {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}، وقد بين سبحانه أحوال هؤلاء الرجال وصفاتهم، فقال: {لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} أما إنهم لا تلهيهم الحياة وما فيها عن ذكر الله، فهم في ذكر لله دائم، في تجارتهم يذكرون وفي بياعاتهم يذكرون الله تعالى، فذكر الله يجب أن تملأ به القلوب، لا يغفلون عن ذكره أبدا، وإذا ذكر الله تعالى في معاملاته الإنسانية كان في طهارة دائمة فلا يغش، ولا يداهن، ولا يبخس الناس أشياءهم، والصلاة شرعت في أوقاتها الخمس لدوام ذكر الله تعالى، فصلاة الفجر لملء النفس بذكر الله، فيقبل على الحياة، وهو ممتلئ بذكر الله تعالى، حتى إذا ابتدأ القلب يصدأ جاءت الظهر فجعلته وطهرته بذكر الله، حتى صلاة الأصيل ثم صلاة العشاءين، ويختم اليوم بتسبيح الله تعالى، وامتلاء الناس بذكره، ويستمر ذكر الله فيهم، ولا تلهيهم تجارة ولا بياعات، ولا أعمال الحياة عن ذكر الله أبدا؛ لأنهم في ذكر دائم بعبادة الله تعالى وخصوصا الصلاة، ولذا ذكر الصلاة وإقامتها، فقال تعالى: {وإقام الصلاة} وهذا من عطف الخاص على العام، وإقام الصلاة الإتيان بها مقومة مستقيمة بذكر الله تعالى في كل أركانها وكل عباراتها. والصلاة كما أشرنا تهذيب الروح واتصالها بالله، والمصلي وهو واقف لإقامتها يحس بأنه واقف في الحضرة الربانية، والله يراه وهو العليم بما في الصدور، وما تخفي الأنفس، وهؤلاء لا تلهيهم مطالب الحياة وغاياتها عن إيتاء الزكاة، وهي التعاون الاجتماعي الذي تقوم على دعائمه الحياة الإنسانية في الإسلام.
وإن الأساس للخلاص الكامل للمؤمن هو الإيمان بالبعث والنشور والقيامة والحساب، فإن ذلك يجعل الإنسان يحس بأن لحياته معنى وغاية، ولم يخلق عبثا أو سدى، بل إن له يوما يحاسب فيه على ما قدم وما كسب، ولذا قال في أوصاف الرجال الذين يعمرون مساجد الله {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}، أي يخافون يوم الفزع الأكبر، و {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ} تضطرب، والتقلب التحول أي بمعنى تتحول وتنتقل من مكانها ثم تعود، وتكون في تحول ثم عودة، وهذا يدل على اضطرابها، وفزعها أشد ما يكون الفزع، وإن تقلب القلوب يكون بين الطمع والخوف، والرجاء والهلع، وتقلب الأبصار يكون بأن تتقلب حدقة العين في الحركة من الخوف، وهذا يدل على فزع واضطراب مستمر، كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم... (110)} [الأنعام].
وقد وصف هؤلاء الذين يعمرون بيوت الله بالذكر والتسبيح بأنهم:
} رجال لا تليهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار: {
قلنا: إن التجارة هي قمة حركة الحياة؛ لأنها واسطة بين منتج زارع أو صانع وبين مستهلك، وهي تقتضي البيع والشراء، وهما قمة التبادلات، وهؤلاء الرجال لم تلههم التجارة عن ذكر الله لأنهم عرفوا ما في الزمن المستقطع للصلاة من بركة تنثر في الزمن الباقي.
أو نقول: إن التجارة لم تلههم عن ذكر الله في ذاتها، فهم حال تجارتهم لا يغفلون عن ذكر الله، وقد كنا في الصغر نسمع في الأسواق بين البائع والمشتري، يقول أحدهما للآخر: وحد الله، صل على النبي، مدح النبي، بالصلاة على النبي، كل هذه العبارات انقرضت الآن من الأسواق والتعاملات التجارية وحل محلها قيم وعبارات أخرى تعتمد على العرض والإعلان، بل الغش والتدليس. ولم نعد نسمع هذه العبارات، حتى إذا لم يتم البيع كنت تسمع البائع يقول: كسبنا الصلاة على النبي، فهي في حد ذاتها مكسب حتى لو لم يتم البيع.
{وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} الصلاة لأنها تأخذ وقتا من العمال، وكثيرا ما ينشغل المرء بعمله وتجارته عن إقامة الصلاة ظانا أنها ستضيع عليه الوقت، وتفوت عليه مصالح كثيرة، وكذلك ينظر إلى الزكاة على أنها تنقص من ماله، وهذه نظرة خاطئة حمقاء؛ لأن الفلاح الذي يخرج من مخزنه أردبا من القمح ليزرع به أرضه: الأحمق يقول: المخزن نقص أردبا، أما العاقل فيثق أن هذا الأردب سيتضاعف عند الحصاد أضعافا مضاعفة.
أو: أن الله تعالى يفيض عليه من أنواره، فيبارك له في وقته، وينجز من الأعمال في الوقت المتبقى ما لا ينجزه تارك الصلاة، أو: يرزقه بصفقة رابحة تأتيه في دقائق، ومن حيث لا يحتسب، والبركة كما قلنا قد تكون سلبا وقد تكون إيجابا، وهذه كلها أنوار وتجليات يفيض الله بها على الملتزم بمنهجه.
ثم يقول سبحانه في صفات هؤلاء الرجال: {يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} ذلك لأنهم يتاجرون لهدف أسمى وأخلد، فأهل الدنيا إنما يتاجرون لصيانة دنياهم، أما هؤلاء فيتاجرون مع الله تجارة لن تبور، تجارة تصون الدنيا وتصون الآخرة.
وإذا قست زمن دنياك بزمن أخراك لوجدته هباء لا قيمة له، كما أنه زمن مظنون لعمر مظنون، لا تدري متى يفاجئك فيه الموت، أما الآخرة فحياة يقينية باقية دائمة، وفي الدنيا يفوتك النعيم مهما حلا وطال، أما الآخرة فنعيمها دائم لا ينقطع.
إذن: فهم يعملون للآخرة {يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار}: واليوم في ذاته لا يخاف منه، وإنما يخاف ما فيه، كما يقول الطالب: خفت يوم الامتحان، واليوم يوم عادي لا يخاف منه، إنما يخاف مما سيحدث في هذا اليوم، فالمراد: يخافون عذاب هذا اليوم.
ومعنى {تتقلب فيه القلوب والأبصار} يعني: رجفة القلب واضطراب حركته، وما ينتابه من خفقان شديد، ونحن نرى ما يصيب القلوب من ذلك لمجرد أحداث الدنيا، فما بالك بهول الآخرة، وما يحدث من اضطراب في القلب؟.
كذلك تضطرب الأبصار وتتقلب هنا وهناك؛ لأنها حين ترى الفزع الذي يخيفها تتقلب، تنظر هنا وتنظر هنا علها ترى ما يطمئنها أو يخفف عنها ما تجد، لكن هيهات فلن ترى إلا فزعا آخر أشد وأنكى.