عاشراً : نعمة إغاثتهم بالماء بعد أن اشتد بهم العطش :
ثم ذكرهم - سبحانه - بعد ذلك بنعمة من أجل نعمه عليهم ، وهي إغاثتهم في التيه بالماء بعد أن اشتد بهم العطش ، فقال تعالى :
{ وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ . . . }
الاستسقاء : طلب السقيا عند عدم الماء أو حبس المطر ، وذلك عن طريق الدعاء لله - تعالى - في خشوع واستكانة ، وقد سأل موسى ربه أن يسقى بني إسرائيل الماء بعد أن استبد بهم العطش ، عندما كانوا في التيه ، فعن ابن عباس أنه قال : " كان ذلك في التيه ، ضرب له مموسى الحجر ، فصارت منه اثنتا عشرة عيناً من ماء ، لكل سبط منهم عين يشربون منها .
وهذه النعمى كانت نافعة لهم في دنياهم ؛ لأنها أزالت عنهم الحاجة الشيديدة إلى الماء ولولاه لهلكوا ، وكانت نافعة لهم في دينهم ؛ لأنها من أظهر الأدلة على وجود الله . وعلى قدرته وعلمه ، ومن أقوى البراهين على صدق موسى - عليه السلام - في نبوته .
ومعنى الآية الكريمة : واذكروا يا بني إسرائيل وقت أن أصاب آباءكم العطش الشديد وهم في صحراء مجدبة ، فتوسل إلينا نبيهم موسى - عليه السلام - في خشوع وتضرع أن أمدهم بالماء الذي يكفيهم ، فأجبناه إلى ما طلب ، إذ أوحينا إليه أن اضرب بعصاك الحجر . ففعل ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بمقدار عدد الأسباط ، وصار لكل سيط منهم مشرب يعرفه ولا يتعداه إلى غيره ، وقلنا لهم : تمتعوا بما من الله به عليكم من مأكول طيب ومشروب هنيء رزقكم الله إياه من غير تعب ولا مشقة ، { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } فتتحول النعم التي بين أيديكم إلى نقم وتصبحوا على ما فعلتم نادمين .
وقوله تعالى : { وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ } يفيد أن الذي سأل ربه السقيا هو موسى - عليه السلام - وحده ، لتظهر كرامته عند ربه لدى قومه ، وليشاهدوا بأعينهم إكرام الله - تعالى - له ، حيث أجاب سؤاله ، وفجر الماء لهم ببركة دعائه .
واللام في قوله تعالى - { لِقَوْمِهِ } للسببية ، أي لأجل قومه .
والفاء في قوله - تعالى - { فَقُلْنَا اضرب بِّعَصَاكَ الحجر } عطفت الجملة بعدها على محذوف ، والتقدير : فأجبناه إلى ما طلب ، وقلنا اضرب بعصاك الحجر .
وآل في { الحجر } لتعريف الجنس أي اضرب أي حجر شئت بدون تعيين ، وقيل للعهد ، ويكون المراد حجراً معيناً معروفاً لموسى - عليه السلام - بوحى من الله تعالى . وقد أورد المفسرون في ذلك آثاراً حكم المحققون بضعفها ولذلك لم نعتد بها .
والذي نرجحه أنها لتعريف الجنس ، لأن انفجار الماء من أي حجر بعد ضربه أظهر في إقامة البرهان على صدق موسى - عليه السلام - وأدعى لإِيمان بني إسرائيل وانصياعهم للحق بعد وضوحه ، وأبعد عن التشكيك في إكرام الله لنبيه موسى - عليه السلام - إذ لو كان انفجار الماء من حجر معين لأمكن أن يقولوا : إن تفجير الماء كان لمعنى خاص بالحجر لا لكرامة موسى عند ربه - تعالى - .
والفاء في قوله تعالى : { فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ } كسابقتها للعطف على محذوف تقديره : فضرب فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، وقد حذفت هذه الجملة المقدرة لوضوح المعنى .
وكانت العيوم اثنتي عشرة عيناً ؛ لأن بني إسرائيل كانوا اثني عشر سبطاً ، والاسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب . وهم ذرية أبناء يعقوب - عليه السلام - الاثني عشر ، ففي انفجار الماء من اثنتي عشرة عيناً إكمال للنعمة عليهم ، حتى لا يقع بينهم تنازع وتشاجر :
وقال - سبحانه - : { فانفجرت } وقال في سورة الأعراف ( فانبجست ) والانبجاس خروج الماء بقلة . والانفجار خروجه بكثرة ، ولا تنافي بينهما في الواقع ؛ لأنه ابنجس أولا . ثم افنجر ثانياً ، وكذا العيون يظهر الماء منها قليلا ثم يكثر لدوام خروجه .
وقوله تعالى : { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } إرشاد وتنبيه إلى حكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عيناً أي : قد عرف كل سبط من أسباط بني إسرائيل مكان شربه ، فلا يتعداه إلى غيره ، وفي ذلك ما فيه من استقرار أمورهم ، واطمئنان نفوسهم ، وعدم تعدى بعضهم على بعض .
وقوله تعالى : { كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله } مقول لقول محذوف تقديره : وقلنا لهم : كلوا واشربوا من رزق الله .
وقد جمع - سبحانه - بين الأكل والشرب - وإن كان الحديث عن الشراب - لأنه قد تقدمه إنزال المن والسلوى ، وقد قيل هنالك : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } فلما أتبع ذلك بنعمة تفجير الماء لهم اجتمعت المنتان .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } تحذير لهم من البطر والغرور واستعمال النعمى في غير ما وضعت له ، بعد أن أذن لهم في التمتع بالطيبات ، لأن النعمى عندما تكثر قد تنسى العبد حقوق خالقه فيهجر الشريعة ، ويعيث في الأرض فساداً . قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى . أَن رَّآهُ استغنى } والمعنى : ولا تسعوا في الأرض مفسدين ، وتقابلوا النعم بالعصيان فتسلب عنكم قال ابن جرير - رحمه الله - : ( وأصل العثا شدة الإِفساد بل هو أشد الإِفساد ، يقال منه : عثى فلان في الأرض : إذا تجاوز الحد في الإِفساد إلى غايته ، يعثى ، عثاً مقصوراً ، ويقال للجماعة يعثون . . ) .
وكما يسر الله لبني إسرائيل الطعام في الصحراء والظل في الهاجرة ، كذلك أفاض عليهم الري بخارقة من الخوارق الكثيرة التي أجراها الله على يدي نبيه موسى - عليه السلام - والقرآن يذكرهم بنعمة الله عليهم في هذا المقام ، وكيف كان مسلكهم بعد الإفضال والأنعام :
( وإذ استسقى موسى لقومه ، فقلنا : اضرب بعصاك الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا . قد علم كل أناس مشربهم . كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) . .
لقد طلب موسى لقومه السقيا . طلبها من ربه فاستجاب له . وأمره أن يضرب حجرا معينا بعصاه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بعدة أسباط بني إسرائيل ، وكانوا يرجعون إلى اثني عشر سبطا بعدة أحفاد يعقوب - وهو إسرائيل الذي ينتسبون إليه - وأحفاد إسرائيل - أو يعقوب - هم المعروفون باسم الأسباط ، والذين يرد ذكرهم مكررا في القرآن ، وهم رؤوس قبائل بني إسرائيل . وكانوا ما يزالون يتبعون النظام القبلي ، الذي تنسب فيه القبيلة إلى رأسها الكبير .
ومن ثم يقول : ( قد علم كل أناس مشربهم ) . أي العين الخاصة بهم من الاثنتي عشرة عينا . وقيل لهم ، على سبيل الإباحة والإنعام والتحذير من الاعتداء والإفساد :
( كلوا واشربوا من رزق الله ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) . .
{ وإذ استسقى موسى لقومه } لما عطشوا في التيه .
{ فقلنا اضرب بعصاك الحجر } اللام فيه للعهد على ما روي أنه كان حجرا طوريا حمله معه ، وكانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين ، تسيل كل عين في جدول إلى سبط ، وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا ، أو حجرا أهبطه آدم من الجنة ، ووقع إلى شعيب عليه السلام فأعطاه لموسى مع العصا ، أو الحجر الذي فر بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله به عما رموه به من الأدرة ، فأشار إليه جبريل عليه السلام بحمله ، أو للجنس وهذا أظهر في الحجة . قيل لم يأمره بأن يضرب حجرا بعينه ، ولكن لما قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها ؟ حمل حجرا في مخلاته ، وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر ، ويضربه بها إذا ارتحل فييبس ، فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشا ، فأوحى الله إليه لا تقرع الحجر وكلمه يطعك لعلهم يعتبرون . وقيل كان الحجر من رخام وكان ذراعا في ذراع ، والعصا عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان في الظلمة .
{ فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا } متعلق بمحذوف تقديره : فإن ضربت فقد انفجرت ، أو فضرب فانفجرت ، كما مر في قوله تعالى : { فتاب عليكم } وقرئ عشرة بكسر الشين وفتحها وهما لغتان فيه .
{ قد علم كل أناس } كل سبط . { مشربهم } عينهم التي يشربون منها . { كلوا واشربوا } على تقدير القول :
{ من رزق الله } يريد به ما رزقهم الله من المن والسلوى وماء العيون . وقيل الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت به . { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } لا تعتدوا حال إفسادكم ، وإنما قيده لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد ، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله ، ومنه ما يتضمن صلاحا راجحا كقتل الخضر عليه السلام الغلام وخرقه السفينة ، ويقرب منه العيث غير أنه يغلب فيما يدرك حسا ، ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله وقلة تدبره في عجائب صنعه ، فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر وينفر عن الخل ويجذب الحديد ، لم يمتنع أن يخلق الله حجرا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض ، أو لجذب الهواء من الجوانب ويصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك .