ثم ذكرت السورة الكريمة بعد ذلك نعمة أخرى من نعم الله - تعالى - على الناس ، فقال - تعالى - : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } .
أي : والله - تعالى - هو وحده الذي جعل لكم { من أنفسكم } ، أي : من جنسكم ونوعكم { أزواجا } لتسكنوا إليها ، وتستأنسوا بها ، فإن الجنس إلى الجنس آنس وأسكن .
قال - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً . . . } قال الإِمام ابن كثير : " يذكر - تعالى - نعمه على عبيده ، بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا ، أي : من جنسهم وشكلهم ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة ، ولكن من رحمته أنه خلق من بني آدم ذكورا وإناثا ، وجعل الإِناث أزواجا للذكور . . . " .
وقوله - سبحانه - : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } ، بيان لنعمة أخرى من نعمه - تعالى - والحفدة : جمع حافد ، يقال : حفد فلان ، يحفد حفدا : من باب ضرب ، إذا أسرع فى خدمة غيره وطاعته . ومن دعاء القنوت : " وإليك نسعى ونحفد " ، أي : نسرع في طاعتك ياربنا . والمراد بالحفدة : أبناء الأبناء . روي عن ابن عباس أنه قال : الحفيد : ولد الابن والبنت ، ذكرا كان أو أنثى . وقيل : المراد بهم : الخدم والأعوان ، وقيل : المراد بهم : الأَختان والأصهار ، أي : أزواج البنات وأقارب الزوجة .
واللمسة الثالثة في الأنفس والأزواج والأبناء والأحفاد وتبدأ بتقرير الصلة الحية بين الجنسين : ( جعل لكم من أنفسكم أزواجا ) فهن من أنفسكم ، شطر منكم ، لا جنس أحط يتوارى من يبشر به ويحزن ! ( وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ) والإنسان الفاني يحس الامتداد في الأبناء والحفدة ، ولمس هذا الجانب في النفس يثير أشد الحساسية . . ويضم إلى هبة الأبناء والأحفاد هبة الطيبات من الرزق للمشاكلة بين الرزقين ليعقب عليها بسؤال استنكاري : ( أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ؟ ) فيشركون به ويخالفون عن أمره . وهذه النعم كلها من عطائه . وهي آيات على ألوهيته وهي واقعة في حياتهم ، تلابسهم في كل آن . .
أفبالباطل يؤمنون ؟ وما عدا الله باطل ، وهذه الآلهة المدعاة ، والأوهام المدعاة كلها باطل لا وجود له ، ولا حق فيه . وبنعمة الله هم يكفرون ، وهي حق يلمسونه ويحسونه ويتمتعون به ثم يجحدونه .
يذكر تعالى نعمه{[16575]} على عبيده ، بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجًا من جنسهم وشكلهم [ وزيهم ]{[16576]} ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ، لما حصل ائتلاف ومودة ورحمة ، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورًا وإناثا ، وجعل الإناث أزواجا للذكور .
ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة ، وهم : أولاد البنين . قاله ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، وابن زيد .
قال شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس : { بَنِينَ وَحَفَدَةً } ، هم : الولد ، وولد الولد .
وقال سُنَيْد : حدثنا حجاج عن أبي بكر ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، قال : بنوك حين يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك . قال جميل :
حفَد الولائد حَوْلهُن وأسلمت *** بِأكُفِّهن أزِمَّةَ الأجْمَال{[16577]}
وقال مجاهد : { بَنِينَ وَحَفَدَةً } ، ابنه وخادمه . وقال في رواية : الحفدة : الأنصار والأعوان والخدام .
وقال طاوس : الحفدة : الخدم{[16578]} ، وكذا قال قتادة ، وأبو مالك ، والحسن البصري .
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة أنه قال : الحفدة : مَنْ خَدَمَك من ولدك وولد ولدك{[16579]} .
قال الضحاك : إنما كانت العرب يخدمها بنوها .
وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } ، يقول : بنو امرأة الرجل ، ليسوا منه . ويقال : الحفدة : الرجل يعمل بين يدي الرجل ، يقال : فلان يحفد لنا قال : ويزعم{[16580]} رجال أن الحفدة : أخْتَان الرجل .
وهذا [ القول ]{[16581]} الأخير الذي ذكره ابن عباس ، قاله ابن مسعود ، ومسروق ، وأبو الضُّحى ، وإبراهيم النَّخَعيّ ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومجاهد ، والقُرَظي . ورواه عكرمة ، عن ابن عباس .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هم الأصهار .
قال ابن جرير : وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى : " الحَفْد " ، وهو : الخدمة ، الذي منه قوله في القنوت : " وإليك نسعى ونحفد " ، ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والأصهار والخدم{[16582]} ، فالنعمة حاصلة بهذا كله ؛ ولهذا{[16583]} قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } .
قلت : فمن جعل : { وَحَفَدَةً } ، متعلقا بأزواجكم فلا بد أن يكون المراد الأولاد ، وأولاد الأولاد ، والأصهار ؛ لأنهم أزواج البنات ، وأولاد الزوجة ، وكما قال{[16584]} الشعبي والضحاك ، فإنهم غالبا يكونون تحت كنف الرجل وفي حجْره وفي خدمته . وقد يكون هذا هو المراد من قوله [ عليه الصلاة ] {[16585]} والسلام في حديث بَصرة بن أكثم : " والولد عبد لك " رواه أبو داود{[16586]} .
وأما من جعل الحَفَدة هم الخدم ، فعنده أنه معطوف على قوله : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي : وجعل لكم الأزواج والأولاد{[16587]} .
{ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } ، من المطاعم والمشارب .
ثم قال تعالى منكرا على من أشرك في عبادة المنعم غيره : { أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } ، وهم{[16588]} : الأصنام والأنداد ، { وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } ، أي : يسترون نعم الله عليهم ، ويضيفونها إلى غيره .
وفي الحديث الصحيح : " إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه " ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتَرْبع{[16589]} ؟ " {[16590]} .
عطف على التي قبلها ، وهو استدلال ببديع الصنع في خلق النسل إذ جعل مقارناً للتأنّس بين الزوجين ، إذ جعل النسل منهما ولم يجعله مفارقاً لأحد الأبوين أو كليهما .
وجعل النسل معروفاً متصلاً بأصوله بما ألهمه الإنسان من داعية حفظ النسب ، فهي من الآيات على انفراده تعالى بالوحدانية كما قال تعالى في سورة الروم ( 21 ) : { ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } فجعلها آية تنطوي على آيات ، ويتضمّن ذلك الصنع نعماً كثيرة ، كما أشار إليه قوله تعالى : { وبنعمت الله هم يكفرون } .
والقول في جملة { والله جعل لكم } كالقول في نظيرتيها المتقدمتين .
واللام في { جعل لكم } لتعدية فعل { جعل } إلى ثانٍ .
ومعنى { من أنفسكم } من نوعكم ، كقوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسَلّموا على أنفسكم } [ سورة النور : 21 ] أي على الناس الذين بالبيوت ، وقوله : { رسولا من أنفسهم } [ سورة آل عمران : 164 ] وقوله : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ سورة البقرة : 85 ] .
والخطاب بضمير الجماعة المخاطبين موجّه إلى الناس كلّهم ، وغلب ضمير التذكير .
وهذه نعمة إذ جعل قرين الإنسان متكوّناً من نوعه ، ولو لم يجعل له ذلك لاضطُرّ الإنسان إلى طلب التأنّس بنوع آخر فلم يحصل التأنّس بذلك للزوجين . وهذه الحالة وإن كانت موجودة في أغلب أنواع الحيوان فهي نعمة يدركها الإنسان ولا يدركها غيره من الأنواع . وليس من قوام ماهيّة النّعمة أن ينفرد بها المنعم عليه .
والأزواج : جمع زوج ، وهو الشيء الذي يصير مع شيء آخر اثنين ، فلذا وصف بزوج المرادف لثان . وقد مضى الكلام عليه في قوله تعالى : { اسكن أنت وزوجك الجنة } في [ سورة البقرة : 35 ] .
والوصف بالزوج يؤذن بملازمته لآخر ، فلذا سمّي بالزوج قرين المرأة وقرينةُ الرجل . وهذه نعمة اختصّ بها الإنسان إذ ألهمه الله جعل قرين له وجبله على نظام محبّة وغيرة لا يسمَحان له بإهمال زوجه كما تُهمل العجماوات إناثها وتنصرف إناثها عن ذكورها .
و { من } الداخلة على { أنفسكم } للتّبعيض .
وجعل البنين للإنسان نعمة ، وجعل كونهم من زوجة نعمة أخرى ، لأن بها تحقّق كونهم أبناءه بالنسبة للذكر ودوام اتّصالهم به بالنّسبة ، ووجود المشارك له في القيام بتدبير أمرهم في حالة ضعفهم .
و { من } الداخلة على { أزواجكم } للابتداء ، أي جعل لكم بنين منحدرين من أزواجكم .
والحفدة : جمع حافد ، مثل كَملة جمع كامل . والحافد أصله المسرع في الخدمة . وأطلق على ابن الابن لأنه يكثر أن يخدم جدّه لضعف الجدّ بسبب الكبر ، فأنعم الله على الإنسان بحفظ سلسلة نسبه بسبب ضبط الحلقة الأولى منها ، وهي كون أبنائه من زوجه ثم كون أبناء أبنائه من أزواجهم ، فانضبطت سلسلة الأنساب بهذا النظام المحكم البديع .
وغير الإنسان من الحيوان لا يشعر بحفدته أصلاً ولا يَشعر بالبنوّة إلا أنثى الحيوان مدة قليلة قريبَة من الإرضاع . والحفدة للإنسان زيادة في مسرّة العائلة ، قال تعالى : { فبشرّناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } [ سورة هود : 71 ] . وقد عملت من } الابتدائية في { حفدة } بواسطة حرف العطف لأن الابتداء يكون مباشرة وبواسطة .
وجملة { ورزقكم من الطيبات } معطوفة على جملة { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } وما بعدها ، لمناسبة ما في الجمل المعطوف عليها من تضمّن المنّة بنعمة أفراد العائلة ، فإن من مكمّلاتها سعة الرزق ، كما قال تعالى في آل عمران { زيّن للناس حبّ الشّهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة } [ سورة النحل : 14 ] الآية . وقال طرفة :
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي *** بنون كرام سادة لمسود
فالمال والعائلة لا يروق أحدها بدون الآخر .
ثم الرزق يجوز أن يكون مراداً منه المال كما في قوله تعالى في قصة قارون : { وأصبح الذين تمنّوا مكانه بالأمس يقولون ويكأنّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر } [ سورة القصص : 82 ] . وهذا هو الظاهر وهو الموافق لما في الآية المذكورة آنفاً . ويجوز أن يكون المراد منه إعطاء المأكولات الطيّبة ، كما في قوله تعالى : { وجد عندها رزقاً } [ سورة آل عمران : 37 ] و { من } تبعيضية .
و { الطيبات } : صفة لموصوف محذوف دلّ عليه فعل رزقكم ، أي الأرزاق الطيّبات . والتأنيث لأجل الجمع . والطيّب : فَيْعِلٍ صفة مبالغة في الوصف بالطّيِب . والطِيبُ : أصله النزاهة وحسن الرائحة ، ثم استعمل في الملائم الخالص من النّكد ، قال تعالى : { فلنحيينه حياة طيبة } [ سورة النحل : 97 ] . واستعمل في الصالح من نوعه كقوله تعالى : { والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربه } في سورة الأعراف ( 58 ) . ومنه قوله تعالى : { الذين تتوفّاهم الملائكة طيّبين } [ سورة النحل : 32 ] وقد تقدم آنفاً .
فالطيّبات هنا الأرزاق الواسعة المحبوبة للناس كما ذكر في الآية في سورة آل عمران ؛ أو المطعومات والمشروبات اللذيذة الصالحة . وقد تقدم ذكر الطيّبات عند قوله تعالى : { اليوم أحل لكم الطيّبات } في سورة العقود ( 5 ) ، وذكر الطيّب في قوله تعالى : { كلوا مما في الأرض حلالاً طيّباً } في سورة البقرة ( 168 ) .
وفرع على هذه الحجّة والمنّة استفهامُ توبيخ على إيمانهم بالباطل البيّن ، فتفريع التوبيخ عليه واضح الاتجاه .
والباطل : ضد الحقّ لأن ما لا يخلق لا يُعبد بحقّ . وتقديم المجرور في قوله تعالى : { أفبالباطل } على متعلّقه للاهتمام بالتعريف بباطلهم .
والالتفات عن الخطاب السابق إلى الغيبة في قوله تعالى : { أفبالباطل } يجري الكلام فيه على نحو ما تقدم في قوله تعالى : { أفبنعمة الله يجحدون } [ سورة النحل : 71 ] .
وقوله تعالى : { وبنعمت الله هم يكفرون } عطف على جملة التوبيخ ، وهو توبيخ متوجّه على ما تضمّنه قوله تعالى : { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } إلى قوله : { ورزقكم من الطيبات } من الامتنان بذلك الخلق والرزق بعد كونهما دليلاً على انفراد الله بالإلهية .
وتقديم المجرور في قوله تعالى : { بنعمت الله هم يكفرون } على عامله للاهتمام .
وضمير الغيبة في قوله تعالى : { هم يكفرون } ضمير فصل لتأكيد الحكم بكفرانهم النّعمة لأن كفران النّعمة أخفى من الإيمان بالباطل ، لأن الكفران يتعلّق بحالات القلب ، فاجتمع في هذه الجملة تأكيدان : التأكيد الذي أفاده التقديم ، والتأكيد الذي أفاده ضمير الفصل .
والإتيان بالمضارع في { يؤمنون } و { يكفرون } للدّلالة على التجدّد والتّكرير .