السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةٗ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ أَفَبِٱلۡبَٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ هُمۡ يَكۡفُرُونَ} (72)

ثم إنه تعالى ذكر نوعاً آخر من أحوال الناس ؛ ليستدلّ به على وجود الإله المختار الحكيم ، وتنبيهاً على إنعام الله تعالى على عبيده بمثل هذه النعم بقوله تعالى : { والله } ، أي : الذي له تمام القدرة وكمال العلم ، { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } ، أي : من جنسكم ؛ لتستأنسوا بها ؛ ولتكون أولادكم منكم ، فخلق حوّاء من ضلع آدم ، وسائر الناس من نطف الرجال والنساء ، فهو خطاب عام ، فتخصيصه بآدم وحوّاء فقط خلاف الدليل ، والمعنى : أنه تعالى خلق النساء لتتزوّج بهنّ الذكور ، ومعنى من أنفسكم : كقوله تعالى : { فاقتلوا أنفسكم } [ البقرة ، 54 ] ، { فسلموا على أنفسكم } [ النور ، 61 ] ، أي : بعضكم بعضاً ، ونظيره قوله تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً } [ الروم ، 21 ] . { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } ، والحفدة جمع حافد : وهو المسرع بالخدمة ، المسارع إلى الطاعة ، ومنه قول القانت : وإليك نسعى ونحفد ، أي : نسرع إلى طاعتك ، هذا أصله في اللغة .

واختلف فيه أقوال المفسرين ، فقال ابن مسعود والنخعي : الحفدة أختان الرجل على بناته . وعن ابن مسعود أنهم أصهاره ، فهو بمعنى الأوّل ، وعلى هذا يكون معنى الآية : وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوّجونهنّ ، فيحصل لكم بسببهنّ الأختان والأصهار . وقال الحسن وعكرمة والضحاك : هم الخدم . وقال مجاهد : هم الأعوان ، وكل من أعانك فهو حفيدك . وقال عطاء : هم ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه . وقال الكلبي ومقاتل : البنون : هم الصغار ، والحفدة : كبار الأولاد الذين يعينون الرجل الذين ليسوا منه ، أي : أولاد المرأة من الزوج الأوّل . قال الرازي : والأولى دخول الكل فيه ؛ لأنّ اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالحفدة البنون أنفسهم ، كأنه قيل : جعل لكم منهنّ أولاداً هم بنون وهم حافدون ، أي : جامعون بين الأمرين انتهى . ومع هذا ، فالمشهور أنّ الحافد ولد الولد من الذكور والإناث .

فائدة : قال الأطباء وأهل الطبيعة : المني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الذكر ، ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم ، كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة ، وإذا انصب من الخصية اليسرى ، ثم انصب إلى الجانب الأيسر من الرحم ، كان الولد أنثى تاماً في الأنوثة ، وإذا انصب إلى الخصية اليمنى ، وانصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم ، كان ذكراً في طبيعة الإناث ، وإذا انصب إلى الخصية اليسرى ، ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم ، كان هذا الولد أنثى في طبيعة الذكور . وحاصل كلامهم أنّ الذكور الغالب عليهم الحرارة واليبوسة ، والغالب على الإناث البرودة والرطوبة ، وهذه العلة ضعيفة ؛ فإنّ في النساء من مزاجها في غاية السخونة ، وفي الرجال من مزاجه في غاية البرودة . فخالق الذكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم .

ولما ذكر تعالى إنعامه على عبيده بالمنكوح ، وما بينه فيه من المنافع والمصالح ، ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة فقال : { ورزقكم من الطيبات } ، سواء كانت من النبات : وهي الثمار والحبوب والأشربة ، أو كانت من الحيوان ، والمراد بالطيب : المستلذ ، أو الحلال ، و " من " في " من الطيبات " للتبعيض ؛ لأنّ كل الطيبات في الجنة ، وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها . واختلف في تفسير قوله تعالى : { أفبالباطل يؤمنون } ، فقال ابن عباس : يعني بالأصنام . وقال مقاتل : يعني بالشيطان ، وقال عطاء : يصدّقون أنّ لي شريكاً وصاحبة وولداً . { وبنعمت الله هم يكفرون } ، أي : بأن يضيفوها إلى غير الله تعالى ، ويتركون إضافتها إلى الله تعالى . وقيل : الباطل : ما سوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ، ونعمة الله : ما أحل لهم من هذه الطيبات وتحريم الخبائث .

فائدة : رسمت " نعمت " هنا بالتاء ، ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء ، والباقون بالتاء ، والكسائي يقرأ بالإمالة .