ثم إنه تعالى ذكر نوعاً آخر من أحوال الناس ؛ ليستدلّ به على وجود الإله المختار الحكيم ، وتنبيهاً على إنعام الله تعالى على عبيده بمثل هذه النعم بقوله تعالى : { والله } ، أي : الذي له تمام القدرة وكمال العلم ، { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } ، أي : من جنسكم ؛ لتستأنسوا بها ؛ ولتكون أولادكم منكم ، فخلق حوّاء من ضلع آدم ، وسائر الناس من نطف الرجال والنساء ، فهو خطاب عام ، فتخصيصه بآدم وحوّاء فقط خلاف الدليل ، والمعنى : أنه تعالى خلق النساء لتتزوّج بهنّ الذكور ، ومعنى من أنفسكم : كقوله تعالى : { فاقتلوا أنفسكم } [ البقرة ، 54 ] ، { فسلموا على أنفسكم } [ النور ، 61 ] ، أي : بعضكم بعضاً ، ونظيره قوله تعالى : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً } [ الروم ، 21 ] . { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } ، والحفدة جمع حافد : وهو المسرع بالخدمة ، المسارع إلى الطاعة ، ومنه قول القانت : وإليك نسعى ونحفد ، أي : نسرع إلى طاعتك ، هذا أصله في اللغة .
واختلف فيه أقوال المفسرين ، فقال ابن مسعود والنخعي : الحفدة أختان الرجل على بناته . وعن ابن مسعود أنهم أصهاره ، فهو بمعنى الأوّل ، وعلى هذا يكون معنى الآية : وجعل لكم من أزواجكم بنين وبنات تزوّجونهنّ ، فيحصل لكم بسببهنّ الأختان والأصهار . وقال الحسن وعكرمة والضحاك : هم الخدم . وقال مجاهد : هم الأعوان ، وكل من أعانك فهو حفيدك . وقال عطاء : هم ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه . وقال الكلبي ومقاتل : البنون : هم الصغار ، والحفدة : كبار الأولاد الذين يعينون الرجل الذين ليسوا منه ، أي : أولاد المرأة من الزوج الأوّل . قال الرازي : والأولى دخول الكل فيه ؛ لأنّ اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالحفدة البنون أنفسهم ، كأنه قيل : جعل لكم منهنّ أولاداً هم بنون وهم حافدون ، أي : جامعون بين الأمرين انتهى . ومع هذا ، فالمشهور أنّ الحافد ولد الولد من الذكور والإناث .
فائدة : قال الأطباء وأهل الطبيعة : المني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الذكر ، ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم ، كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة ، وإذا انصب من الخصية اليسرى ، ثم انصب إلى الجانب الأيسر من الرحم ، كان الولد أنثى تاماً في الأنوثة ، وإذا انصب إلى الخصية اليمنى ، وانصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم ، كان ذكراً في طبيعة الإناث ، وإذا انصب إلى الخصية اليسرى ، ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم ، كان هذا الولد أنثى في طبيعة الذكور . وحاصل كلامهم أنّ الذكور الغالب عليهم الحرارة واليبوسة ، والغالب على الإناث البرودة والرطوبة ، وهذه العلة ضعيفة ؛ فإنّ في النساء من مزاجها في غاية السخونة ، وفي الرجال من مزاجه في غاية البرودة . فخالق الذكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم .
ولما ذكر تعالى إنعامه على عبيده بالمنكوح ، وما بينه فيه من المنافع والمصالح ، ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة فقال : { ورزقكم من الطيبات } ، سواء كانت من النبات : وهي الثمار والحبوب والأشربة ، أو كانت من الحيوان ، والمراد بالطيب : المستلذ ، أو الحلال ، و " من " في " من الطيبات " للتبعيض ؛ لأنّ كل الطيبات في الجنة ، وما طيبات الدنيا إلا أنموذج منها . واختلف في تفسير قوله تعالى : { أفبالباطل يؤمنون } ، فقال ابن عباس : يعني بالأصنام . وقال مقاتل : يعني بالشيطان ، وقال عطاء : يصدّقون أنّ لي شريكاً وصاحبة وولداً . { وبنعمت الله هم يكفرون } ، أي : بأن يضيفوها إلى غير الله تعالى ، ويتركون إضافتها إلى الله تعالى . وقيل : الباطل : ما سوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ، ونعمة الله : ما أحل لهم من هذه الطيبات وتحريم الخبائث .
فائدة : رسمت " نعمت " هنا بالتاء ، ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء ، والباقون بالتاء ، والكسائي يقرأ بالإمالة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.