فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةٗ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ أَفَبِٱلۡبَٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ هُمۡ يَكۡفُرُونَ} (72)

ثم ذكر سبحانه الحالة الأخرى من أحوال الإنسان فقال : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } قال المفسرون : يعني النساء فإنه خلق حوّاء من ضلع آدم . أو المعنى : خلق لكم من جنسكم أزواجاً لتستأنسوا بها ، لأن الجنس يأنس إلى جنسه ، ويستوحش من غير جنسه ، وبسبب هذه الأنسة يقع بين الرجال والنساء ما هو سبب للنسل الذي هو المقصود بالزواج ، ولهذا قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم بَنِينَ وَحَفَدَةً } الحفدة : جمع حافد ، يقال : حفد يحفد حفداً وحفوداً : إذا أسرع ، فكل من أسرع في الخدمة ، فهو حافد ، قال أبو عبيد : الحفد : العمل والخدمة . قال الخليل بن أحمد :

الحفدة عند العرب : الخدم ، ومن ذلك قول الشاعر ، وهو الأعشى :

كلفت مجهولنا نوقا يمانية *** إذ الحداة على أكتافها حفدوا

أي : الخدم والأعوان . وقال الأزهري : قيل : الحفدة أولاد الأولاد . وروي عن ابن عباس ؛ وقيل : الأختان . قاله ابن مسعود ، وعلقمة ، وأبو الضحى ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، ومنه قول الشاعر :

فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت *** لها حفد مما تعدّ كثير

ولكنها نفس عليّ أبية . . . عيوف لأصهار اللئام قذور

وقيل : الحفدة الأصهار . قال الأصمعي : الختن : من كان من قبل المرأة ، كابنها ، وأخيها وما أشبههما . والأصهار منهما جميعاً . يقال : أصهر فلان إلى بني فلان وصاهر . وقيل : هم أولاد امرأة الرجل من غيره ؛ وقيل : الأولاد الذين يخدمونه . وقيل : البنات الخادمات لأبيهنّ . ورجح كثير من العلماء أنهم أولاد الأولاد ، لأنه سبحانه امتنّ على عباده بأن جعل لهم من الأزواج بنين وحفدة ، فالحفدة في الظاهر معطوفون على البنين ، وإن كان يجوز أن يكون المعنى : جعل لكم من أزواجكم بنين ، وجعل لكم حفدة . ولكن لا يمتنع على هذا المعنى الظاهر أن يراد بالبنين من لا يخدم ، وبالحفدة من يخدم الأب منهم ، أو يراد بالحفدة البنات فقط . ولا يفيد أنهم أولاد الأولاد إلاّ إذا كان تقدير الآية : وجعل لكم من أزواجكم بنين ، ومن البنين حفدة ، { وَرَزَقَكُم منَ الطيبات } التي تستطيبونها وتستلذونها ، و«من » للتبعيض ؛ لأن الطيبات لا تكون مجتمعة إلاّ في الجنة ، ثم ختم سبحانه الآية بقوله : { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } والاستفهام للإنكار التوبيخي ، والفاء للعطف على مقدّر ، أي : يكفرون بالله ، فيؤمنون بالباطل ، وفي تقدّم { بالباطل } على الفعل دلالة على أنه ليس لهم إيمان إلا به . والباطل : هو اعتقادهم في أصنامهم أنها تضر وتنفع . وقيل : الباطل ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة ونحوهما . قرأ الجمهور { يؤمنون } بالتحتية ، وقرأ أبو بكر بالفوقية على الخطاب { وبنعمة الله هم يكفرون } أي : ما أنعم به عليهم مما لا يحيط به حصر . وفي تقديم النعمة ، وتوسيط ضمير الفصل دليل على أن كفرهم مختص بذلك ، لا يتجاوزه لقصد المبالغة والتأكيد .

/خ74