وقوله : { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً . . } ، بيان للون آخر من الإِلهامات التي ألهمها الله - تعالى - إياها .
والسبل : جمع سبيل . والمراد بها : الطرق التي تسلكها النحلة في خروجها من بيتها ، وفي رجوعها إليه ، وأضاف - سبحانه - السبل إليه ؛ لأنه هو خالقها وموجدها .
وذللا : جمع ذلول ، وهو : الشيء الممهد المنقاد ، وهو حال من السبل ، أي : فاسلكي سبل ربك حال كونها ممهدة لك ، لا عسر في سلوكها عليك ، وإن كانت صعبة بالنسبة لغيرك .
قالوا : ربما أجدب عليها ما حولها ، فتنتجع الأماكن البعيدة للمرعى ، ثم تعود إلى بيوتها دون أن تضل عنها .
وقيل إن : { ذللا } ، حال من النحلة ، أي : ثم كلي من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك ، حالة كونك منقادة لما يراد منك ، مطيعة لما سخرك الله له ، من أمور تدل على قدرته وحكمته - سبحانه - .
وقوله - تعالى - : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، كلام مستأنف ، عدل به من خطاب النحلة الى خطاب الناس ، تعديدا للنعم ، وتعجيبا لكل سامع ، وتنبيها على مواطن العظات والعبر الدالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وعجيب صنعه في خلقه .
أي : يخرج من بطون النحل - بعد أكلها من كل الثمرات ، وبعد اتخاذها بيوتها - شراب هو العسل ، مختلف ألوانه ما بين أبيض وأصفر ، وغير ذلك من ألوان العسل ، على حسب اختلاف مراعيها ، ومآكلها ، وسنها ، وغير ذلك بما اقتضته حكمته - سبحانه - .
والضمير في قوله - تعالى - : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، يعود على الشراب المستخرج من بطونها ، وهو : العسل .
أي : في العسل شفاء عظيم للناس من أمراض كثيرة تعرض لهم .
وقيل : الضمير يعود إلى القرآن الكريم ، والتقدير : فيما قصصنا عليكم في هذا القرآن الشفاء للناس .
وهذا القيل وإن كان صحيحا في ذاته ، إلا أن السياق لا يدل عليه ، لأن الآية تتحدث عما يخرج من بطون النحل ، وهو : العسل ، ولا وجه للعدول عن الظاهر ، ومخالفة المرجع الواضح .
قال الإِمام ابن كثير : والدليل على أن المراد بقوله : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، هو : العسل ، الحديث الذي رواه البخاري ، ومسلم ، في صحيحيهما ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، " أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أخي استطلق بطنه فقال : " اسقه عسلا " ، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا . قال : " اذهب فاسقه عسلا " . فذهب فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صدق الله ، وكذب بطن أخيك . اذهب فاسقه عسلا " ، فذهب فسقاه عسلا ، فبرئ " .
ثم ساق الإِمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث في هذا المعنى ، منها : ما رواه البخاري ، عن ابن عباس قال : " الشفاء في ثلاثة : فى شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أوكية بنار ، وأنهى أمتي عن الكي " .
وروى البخاري - أيضا - عن جابر بن عبد الله قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن كان في شئ من أدويتكم - أو يكون في شيء من أدويتكم - خير : ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار توافق الداء ، وما أحب أن أكتوي " .
وقال صاحب فتح البيان : وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء ، أو خاص ببعض الأمراض ؟ .
فقال طائفة : هو على العموم في كل حال ولكل أحد .
وقالت طائفة أخرى : إن ذلك خاص ببعض الأمراض ، ولا يقتضى العموم في كل علة وفي كل إنسان ، وليس هذا بأول لفظ خصص في القرآن ، فالقرآن مملوء منه ، ولغة العربية يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص ، والخاص بمعنى العام .
ومما يدل على هذا ، أن العسل نكرة في سياق الإِثبات ، فلا يكون عاما باتفاق أهل اللسان . ومحققي أهل الأصول . وتنكيره إن أريد به التعظيم ، لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيما لمرض ، أو أمراض ، لا لكل مرض ، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم .
ثم قال : قلت : وحديث البخاري : أن أخي استطلق بطنه . . أوضح دليل على ما ذهبت إليه طائفة من تعميم الشفاء ؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم " صدق الله " أي : أنه شفاء ، فلو كان لبعض دون بعض لم يكرر الأمر بالسقيا .
والذي نراه ، أن من الواجب علينا أن نؤمن إيمانا جازما بأن العسل المذكور فيه شفاء للناس ، كما صرح بذلك القرآن الكريم ، وكما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
وعلينا بعد ذلك أن نفوض أمر هذا الشفاء وعموميته وخصوصيته لعلم الله - تعالى - وقدرته وحكمته ، ويكفينا يقينا في هذا المجال ، إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقول للرجل الذي استطلق بطن أخيه أكثر من مرة ، " اذهب فاسقه عسلا " .
وقد تولى كثير من الأطباء شرح هذه الآية الكريمة شرحا علميا وافيا ، وبينوا ما اشتمل عليه عسل النحل من فوائد .
ثم ختم - سبحانه - : الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .
أي : إن في ذلك الذي ذكرناه لكم من أمر النحل ؛ من إلهامها اتخاذ البيوت العجيبة ، ومن إدارتها لشئون حياتها بدقة متناهية ، ومن سلوكها الطرق التي جعلها الله مذللة في ذهابها وإيابها ، للحصول على قوام حياتها ، ومن خروج العسل من بطونها .
والنص على أن العسل فيه شفاء للناس قد شرحه بعض المختصين في الطب . شرحا فنيا . وهو ثابت بمجرد نص القرآن عليه . وهكذا يجب أن يعتقد المسلم استنادا إلى الحق الكلي الثابت في كتاب الله ؛ كما أثر عن رسول الله .
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء إلى رسول الله [ ص ] فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال له رسول الله [ ص ] : " اسقه عسلا " فسقاه عسلا . ثم جاء فقال : يا رسول الله سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا . قال : " اذهب فاسقه عسلا " فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ما زاده ذلك إلا استطلاقا . فقال رسول الله [ ص ] " صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا " فذهب فسقاه عسلا فبرى ء .
ويروعنا في هذا الأثر يقين الرسول [ ص ] أمام ما بدا واقعا عمليا من استطلاق بطن الرجل كلما سقاه أخوه . وقد انتهى هذا اليقين بتصديق الواقع له في النهاية . وهكذا يجب أن يكون يقين المسلم بكل قضية وبكل حقيقة وردت في كتاب الله . مهما بدا في ظاهر الأمر أن ما يسمى الواقع يخالفها . فهي أصدق من ذلك الواقع الظاهري ، الذي ينثني في النهاية ليصدقها . .
ونقف هنا أمام ظاهرة التناسق في عرض هذه النعم : إنزال الماء من السماء . وإخراج اللبن من بين فرث ودم . واستخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب . والعسل من بطون النحل . . إنها كلها أشربة تخرج من أجسام مخالفة لها في شكلها . ولما كان الجو جو أشربة فقد عرض من الأنعام لبنها وحده في هذا المجال تنسيقا لمفردات المشهد كله . وسنرى في الدرس التالي أنه عرض من الأنعام جلودها وأصوافها وأوبارها لأن الجو هناك جو أكنان وبيوت وسرابيل فناسب أن يعرض من الأنعام جانبها الذي يتناسق مع مفردات المشهد . . وذلك أفق من آفاق التناسق الفني في القرآن .
ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات ، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى لها مذللة ، أي : سهلة عليها حيث شاءت في هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة ، والأودية والجبال الشاهقة ، ثم تعود كل واحدة منها إلى موضعها وبيتها ، لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة ، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل ، فتبني الشمع من أجنحتها ، وتقيء العسل من فيها{[16530]} ، وتبيض الفراخ من دبرها ، ثم تصبح إلى مراعيها .
وقال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا } ، أي : مطيعة . فجعلاه حالا من السالكة . قال ابن زيد : وهو كقول الله تعالى : { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 72 ] ، قال : ألا ترى أنهم ينقلون النحل{[16531]} من بيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم .
والقول الأول أظهر ، وهو أنه حال من الطريق ، أي : فاسلكيها مذلَّلةً لك ، نص عليه مجاهد . وقال ابن جرير : كلا القولين صحيح{[16532]} .
وقد قال أبو يعلى الموصلي : حدثنا شيبان بن فَرُّوخ ، حدثنا سُكَيْن{[16533]} بن عبد العزيز ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عُمْرُ الذباب أربعون يوما ، والذباب كله في النار إلا النحل " {[16534]} .
وقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ، أي : ما بين أبيض وأصفر وأحمر ، وغير ذلك من الألوان الحسنة ، على اختلاف مراعيها ومأكلها منها{[16535]} .
وقوله : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } ، أي : في العسل شفاء للناس من أدواء تعرض لهم . قال بعض من تكلم على الطب النبوي : لو قال فيه : " الشفاء للناس " ، لكان دواء لكل داء ، ولكن قال : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } ، أي : يصلح لكل أحد من أدواء باردة ، فإنه حار ، والشيء يداوى بضده .
وقال مجاهد بن جَبْر{[16536]} في قوله : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } ، يعني : القرآن .
وهذا قول صحيح في نفسه ، ولكن ليس هو الظاهر هاهنا من سياق الآية ؛ فإن الآية إنما ذكر فيها العسل ، ولم يتابع مجاهد على قوله هاهنا ، وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } الآية [ الإسراء : 82 ] . وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] .
والدليل على أن المراد بقوله تعالى : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } ، هو : العسل - الحديثُ الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما{[16537]} من رواية قتادة ، عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استَطْلَق بطنُه . فقال : " اسقه عسلا " . فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال : يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا ! قال : " اذهب فاسقه عسلا " . فذهب فسقاه ، ثم جاء فقال : يا رسول الله ، ما زاده إلا استطلاقا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق الله ، وكذب بطن أخيك ! اذهب فاسقه عسلا " . فذهب فسقاه فبرئ{[16538]} .
قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات ، فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت ، فأسرعت في الاندفاع ، فزاد إسهاله ، فاعتقد{[16539]} الأعرابي أن هذا يضره ، وهو مصلحة لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ، ثم سقاه فكذلك ، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن ، استمسك بطنه ، وصلح مزاجه ، واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته ، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام{[16540]} .
وفي الصحيحين ، من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل . هذا{[16541]} لفظ البخاري{[16542]} .
وفي صحيح البخاري : من حديث سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشفاء في ثلاثة : في شَرْطةِ مِحْجَم ، أو شربة عسل ، أو كيَّةٍ بنار ، وأنهى أمتي عن الكي " {[16543]} .
وقال البخاري : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الرحمن بن الغَسِيل ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، سمعت جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن كان في شيء من أدويتكم ، أو يكونُ في شيء من أدويتكم خير : ففي شرطة مِحْجَم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار توافق الداء ، وما أحب أن أكتوي " .
ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة ، عن جابر ، به{[16544]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله ، أنبأنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا عبد الله بن الوليد ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر الجُهَني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث إن كان في شيء شفاء : فشَرْطة مِحْجَم ، أو شربة عسل ، أو كيَّة تصيب ألما ، وأنا أكره الكي ولا أحبه " {[16545]} .
ورواه الطبراني عن هارون بن مَلّول{[16546]} المصري ، عن أبي عبد الرحمن المقرئ ، [ عن حيوة بن شريح ]{[16547]} عن عبد الله بن الوليد ، به . ولفظه : " إن كان في شيء شفاء : فشرطة محجم " . . . وذكره{[16548]} وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه .
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد{[16549]} بن ماجه القزويني في سننه : حدثنا علي بن سلمة - هو اللبقي - حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن " {[16550]} .
وهذا إسناد جيد ، تفرد بإخراجه ابن ماجه مرفوعًا ، وقد رواه ابن جرير ، عن سفيان بن وَكِيع ، عن أبيه ، عن سفيان - هو الثوري - به موقوفا{[16551]} ، وَلَهو{[16552]} أشبه .
وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : إذا أراد أحدكم الشفاء ، فليكتب آية من كتاب الله في صَحْفَة ، وليغسلها بماء السماء ، وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس منها ، فليشتر به عسلا فليشربه بذلك ، فإنه شفاء{[16553]} . أي : من وجوه ، قال الله : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ } [ الإسراء : 82 ] وقال : { وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا } [ ق : 9 ] ، وقال : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } [ النساء : 4 ] ، وقال في العسل : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } . وقال ابن ماجه أيضًا : حدثنا محمود بن خِدَاش ، حدثنا سعيد بن زكريا القرشي ، حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي ، عن عبد الحميد بن سالم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لَعِق العسل ثلاث غَدَوَاتٍ في كل شهر ، لم يصبه عظيم من البلاء " {[16554]} .
وقال ابن ماجه أيضًا : حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سَرْح الفريابي ، حدثنا عمرو بن بكر{[16555]} السَّكْسَكي ، حدثنا إبراهيم بن أبي عبَلة . سمعت أبا أبي ابن أم حَرَام - وكان قد صلى القبلتين - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " عليكم بالسَّنَى والسَّنُّوت ، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام " . قيل : يا رسول الله ، وما السام ؟ قال : " الموت " .
قال عمرو : قال ابن أبي عبلة : " السَّنُّوت " : الشِّبْتُ . وقال آخرون : بل هو العسل الذي [ يكون ]{[16556]} في زِقَاق السمن ، وهو قول الشاعر :
هُمُ السَّمْنُ بالسَّنُّوت لا ألْسَ فيهم *** وَهُمْ يَمنَعُونَ الجارَ أنْ يُقَرَّدا
كذا رواه ابن ماجه{[16557]} . وقوله : " لا ألْسَ فيهم " أي : لا خلط . وقوله : " يمنعون الجار أن يقَرَّدا " ، [ أي يضطهد ويظلم ]{[16558]} .
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، أي : إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامه ، والاجتناء من سائر الثمار ، ثم جمعها للشمع والعسل ، وهو من أطيب الأشياء ، { لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها ، فيستدلون بذلك على أنه [ الفاعل ]{[16559]} القادر ، الحكيم العليم ، الكريم الرحيم .
{ ثم } للترتيب الرتبي ، لأن إلهام النحل للأكل من الثمرات يترتّب عليه تكوّن العسل في بطونها ، وذلك أعلى رتبة من اتخاذها البيوت لاختصاصها بالعسل دون غيرها من الحشرات التي تبني البيوت ، ولأنه أعظم فائدة للإنسان ، ولأن منه قوتها الذي به بقاؤها . وسُمّي امتصاصها أكلاً لأنها تقتاته فليس هو بشرب .
و { الثمرات } : جمع ثمرة . وأصل الثمرة ما تخرجه الشجرة من غلّة ، مثل التّمْر والعنب ؛ والنحلُ يمتصّ من الأزهار قبل أن تصير ثمرات ، فأطلق { الثمرات } في الآية على الأزهار على سبيل المجاز المرسل بعلاقة الأول .
وعطفت جملة { فاسلكي } بفاء التفريع للإشارة إلى أن الله أودع في طبع النحل عند الرعي التنقّل من زهرة إلى زهرة ومن روضة إلى روضة ، وإذا لم تجد زهرة أبعدت الانتجاع ثم إذا شبعت قصدت المبادرة بالطيران عقب الشبع لترجع إلى بيوتها فتقذف من بطونها العسل الذي يفضل عن قوتها ، فذلك السلوك مفرع على طبيعة أكلها .
وبيان ذلك أن للأزهار وللثمار غدداً دقيقة تفرز سائلاً سكرياً تمتصّه النحل وتملأ به ما هو كالحواصل في بطونها وهو يزداد حلاوة في بطون النحل باختلاطه بمواد كيميائية مودعة في بطون النحل ، فإذا راحت من مرعاها إلى بيوتها أخرجت من أفواهها ما حصل في بطونها بعد أن أخذ منه جسمها ما يحتاجه لقوته ، وذلك يشبه اجترار الحيوان المجترّ . فذلك هو العسل .
والعسل حين القذف به في خلايا الشَهد يكون مائعاً رقيقاً ، ثم يأخذ في جفاف ما فيه من رطوبة مياه الأزهار بسبب حرارة الشمع المركّب منه الشهد وحرارة بيت النحل حتى يصير خاثراً ، ويكون أبيض في الربيع وأسمر في الصيف .
والسلوك : المرور وسط الشيء من طريق ونحوه . وتقدم عند قوله تعالى : { كذلك نسلكه في قلوب المجرمين } في سورة الحجر ( 12 ) .
ويستعمل في الأكثر متعدّياً كما في آية الحِجر بمعنى أسلكه ، وقاصراً بمعنى مَرّ كما هنا ، لأن السّبل لا تصلح لأن تكون مفعول ( سلك ) المتعدي ، فانتصاب { سبل } هنا على نزع الخافض توسعاً .
وإضافة السبل إلى { ربك } للإشارة إلى أن النحل مسخّرة لسلوك تلك السبل لا يَعدلها عنها شيء ، لأنها لَوْ لَمْ تسلكها لاختلّ نظام إفراز العسل منها .
و { ذللاً } جمع ذلول ، أي مذلّلة مسخّرة لذلك السلوك . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ذلول تثير الأرض } في سورة البقرة ( 71 ) .
وجملة { يخرج من بطونها شراب } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن ما تقدم من الخبر عن إلهام النحل تلك الأعمال يثير في نفس السامع أن يسأل عن الغاية من هذا التكوين العجيب ، فيكون مضمون جملة { يخرج من بطونها شراب } بياناً لما سأل عنه . وهو أيضاً موضع المنّة كما كان تمام العبرة .
وجيء بالفعل المضارع للدّلالة على تجدّد الخروج وتكرّره .
وعبّر عن العسل باسم الشراب دون العسل لما يومىء إليه اسم الجنس من معنى الانتفاع به وهو محل المنّة ، وليرتب عليه جملة { فيه شفاء للناس } . وسمّي شراباً لأنه مائع يشرب شرباً ولا يمضغ . وقد تقدم ذكر الشراب في قوله تعالى : { لكم منه شراب } في أوائل هذه السورة [ النحل : 10 ] .
ووصفه ب { مختلف ألوانه } لأن له مدخلاً في العبرة ، كقوله تعالى : { تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل } [ سورة الرعد : 4 ] ، فذلك من الآيات على عظيم القدرة ودقيق الحكمة .
وفي العسل خواص كثيرة المنافع مبيّنة في علم الطب .
وجعل الشّفاء مظروفاً في العسل على وجه الظرفية المجازية . وهي الملابسة للدلالة على تمكّن ملابسة الشفاء إياه ، وإيماء إلى أنه لا يقتضي أن يطّرد الشفاء به في كل حالة من أحوال الأمزجة ، أو قد تعرض للأمزجة عوارض تصير غير ملائم لها شرب العسل .
فالظرفية تصلح للدّلالة على تخلّف المظروف عن بعض أجزاء الظرف ، لأن الظرف يكون أوسع من المظروف غالباً . شبه تخلّف المقارنة في بعض الأحوال بقلّة كمية المظروف عن سعة الظرف في بعض أحوال الظروف ومظروفاتها ، وبذلك يبقى تعريف الناس على عمومه ، وإنما التخلّف في بعض الأحوال العارضة ، ولولا العارض لكانت الأمزجة كلها صالحة للاستشفاء بالعسل .
وتنكير { شفاء } في سياق الإثبات لا يقتضي العموم فلا يقتضي أنه شفاء من كل داء ، كما أن مفاد ( في ) من الظرفية المجازية لا يقتضي عموم الأحوال .
وعمومُ التعريف في قوله تعالى : { للناس } لا يقتضي العموم الشمولي لكل فرد فرد بل لفظ ( الناس ) عمومه بَدَلي . والشفاء ثابت للعسل في أفراد الناس بحسب اختلاف حاجات الأمزجة إلى الاستشفاء . وعلى هذا الاعتبار محمل ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري : أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ أخي استُطلق بطْنه ، فقال : اسقه عسلاً . فذهب فسقاه عسلاً . ثم جاء ، فقال : يا رسول الله سقيته عسلاً فما زاده إلا استطلاقاً ؛ قال : اذهب فاسقه عسلاً ، فذهب فسقاه عسلاً ثم جاء ، فقال : يا رسول الله ما زاده إلا استطلاقاً . فقال رسول الله : " صدَق الله وكذبَ بطْن أخيك ؛ فذهب فسقاه عسلاً فبرىء " . إذ المعنى أن الشفاء الذي أخبر الله عنه بوجوده في العسل ثابت ، وأن مزاج أخي السائل لم يحْصل فيه معارض ذلك ، كما دلّ عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه أن يسقيه العسل ، فإن خبره يتضمّن أن العسل بالنسبة إليه باقٍ على ما جعل الله فيه من الشفاء .
ومن لطيف النّوادر ما في « الكشاف » : أن من تأويلات الروافض أن المراد بالنحل في الآية عليّ وآله . وعن بعضهم أنه قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم ، فقال له رجل : جعَل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم ، فضحك المهدي وحدّث به المنصور فاتّخذوه أضحوكة من أضاحيكهم .
قلت : الرجل الذي أجاب الرافضي هو بَشّار بن برد . وهذه القصّة مذكورة في أخبار بشّار .
وجملة { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } مثل الجملتين المماثلتين لها . وهو تكرير لتعداد الاستدلال ، واختير وصف التفكّر هنا لأن الاعتبار بتفصيل ما أجملته الآية في نظام النحل محتاج إلى إعمال فكر دقيق ، ونظر عميق .