البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةٗ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ أَفَبِٱلۡبَٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ هُمۡ يَكۡفُرُونَ} (72)

الحفدة : الأعوان والخدم ، ومن يسارع في الطاعة حفد يحفد حفداً وحفوداً وحفداناً ، ومنه : وإليك نسعى ونحفد أي : نسرع في الطاعة .

وقال الشاعر :

حفد الولائد حولهنّ وأسلمت . . . *** بأكفهنّ أزمة الأجمال

وقال الأعشى :

كلفت مجهودها نوقاً يمانية . . . *** إذا الحداة على أكسائها حفدوا

وتتعدى فيقال : حفدني فهو حافدي .

قال الشاعر :

يحفدون الضيف في أبياتهم *** كرماً ذلك منهم غير ذل

قال أبو عبيدة : وفيه لغة أخرى ، أحفد إحفاداً ، وقال : الحفد العمل والخدمة .

وقال الخليل : الحفدة عند العرب الخدم .

وقال الأزهري : الحفدة أولاد الأولاد ، وقيل : الأختان .

وأنشد :

فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت *** لها حفد مما يعد كثير ولكنها نفس عليّ أبية

عيوف لأصحاب اللئام قذور . . .

ولما ذكر تعالى امتنانه بالإيجاد ثم بالرزق المفضل فيه ، ذكر امتنانه بما يقوم بمصالح الإنسان مما يأنس به ويستنصر به ويخدمه ، واحتمل أن أنفسكم أن يكون المراد من جنسكم ونوعكم ، واحتمل أن يكون ذلك باعتبار خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم ، فنسب ذلك إلى بني آدم ، وكلا الاحتمالين مجاز .

والظاهر أن عطف حفدة على بنين يفيد كون الجميع من الأزواج ، وأنهم غير البنين .

فقال الحسن : هم بنو ابنك .

وقال ابن عباس والأزهري : الحفدة أولاد الأولاد ، واختاره ابن العربي .

وقال ابن عباس أيضاً : البنون صغار الأولاد ، والحفدة كبارهم .

وقال مقاتل : بعكسه ، وقيل : البنات لأنهنّ يخدمن في البيوت أتم خدمة .

ففي هذا القول خص البنين بالذكران لأنه جمع مذكر كما قال : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } وإنما الزينة في الذكورة .

وعن ابن عباس : هم أولاد الزوجة من غير الزوج التي هي في عصمته .

وقيل : وحفدة منصوب بجعل مضمرة ، وليسوا داخلين في كونهم من الأزواج .

فقال ابن مسعود ، وعلقمة ، وأبو الضحى ، وإبراهيم بن جبير : الأصهار ، وهم قرابة الزوجة كأبيها وأخيها .

وقال مجاهد : هم الأنصار والأعوان والخدم .

وقالت فرقة : الحفدة هم البنون أي : جامعون بين البنوة والخدمة ، فهو من عطف الصفات لموصوف واحد .

قال ابن عطية ما معناه : وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجه بنين وحفدة ، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس .

ويحتمل عندي أن قوله من أزواجكم ، إنما هو على العموم والاشتراك أي : من أزواج البشر جعل الله منهم البنين ، ومنهم جعل الخدمة ، وهكذا رتبت الآية النعمة التي تشمل العالم .

ويستقيم لفظ الحفدة على مجراها في اللغة ، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة انتهى .

وفي قوله : من أنفسكم أزواجاً دلالة على كذب العرب في اعتقادها أن الآدمي قد يتزوج من الجن ويباضعها ، حتى حكوا ذلك عن عمرو بن هندانة تزوج سعلاة .

ومِن في الطيبات للتبعيض ، لأن كل الطيبات في الجنة ، والذي في الدنيا أنموذج منها .

والظاهر أنّ الطيبات هنا المستلذات لا الحلال ، لأن المخاطبين كفار لا يتلبسون بشرع .

ولما ذكر تعالى ما امتن به من جعل الأزواج وما ننتفع به من جهتين ، ذكر مننه بالرزق .

والطيبات عام في النبات والثمار والحبوب والأشربة ، ومن الحيوان .

وقيل : الطيبات الغنائم .

وقيل : ما أتى من غير نصب .

وقال مقاتل : الباطل الشيطان ، ونعمة لله محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال الكلبي : طاعة الشيطان في الحلال والحرام .

وقيل : ما يرجى من شفاعة الأصنام وبركتها .

قال الزمخشري : أفبالباطل يؤمنون وهو ما يعتقدون من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها ، وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة ، فليس لهم إيمان إلا به .

كأنه شيء معلوم مستيقن .

ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل ، وتمييزهم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذي لا تتصوره العقول .

وقيل : الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ، ونعمة الله ما أحل لهم انتهى .

وقرأ الجمهور : يؤمنون بالياء ، وهو توقيف للرسول صلى الله عليه وسلم على إيمانهم بالباطل ، ويندرج في التوقيف المعطوف بعدها .

وقرأ السلمي بالتاء ، ورويت عن عاصم ، وهو خطاب إنكار وتقريع لهم ، والجملة بعد ذلك مجرد إخبار عنهم .

فالظاهر أنه لا يندرج في التقريع .