ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى . . } ذكروا روايات منها : ما أخرجه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : " وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات يوم فدعا الله - تعالى - فقال : يا الله ، يا رحمن ، فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزلت " .
ومعنى : ادعوا ، سموا ، و { أو } للتخيير . و { أيا } اسم شرط جازم منصوب على المفعولية بقوله : { ادعوا } والمضاف إليه محذوف ، أى : أى الاسمين . { وتدعو } مجزوم على أنه فعل الشرط لأيًّا ، وجملة { فَلَهُ الأسمآء الحسنى } واقعة موقع جواب الشرط ، و { ما } مزيدة للتأكيد . والحسنى : مؤنث الأحسن الذى هو أفعل تفضيل .
والمعنى : قل يا محمد للناس : سموا المعبود بحق بلفظ الله أو بلفظ الرحمن بأى واحد منهما سميتموه فقد أصبتم ، فإنه - تعالى - له الأسماء الأحسن من كل ما سواه ، وقال - سبحانه - : { فَلَهُ الأسمآء الحسنى } للمبالغة فى كمال أسمائه - تعالى - وللدلالة على أنه ما دامت أسماؤه كلها حسنة ، فلفظ الله ولفظ الرحمن كذلك ، كل واحد منهما حسن .
وقد ذكر الجلالان عند تفسيرهما لهذه الآية ، أسماء الله الحسنى ، فارجع إليها إن شئت .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } تعليم من الله - تعالى - لنبيه كيفية أفضل طرق القراءة فى الصلاة .
فالمراد بالصلاة هنا : القراءة فيها . والجهر بها : رفع الصوت أثناءها ، والمخافتة بها : خفضه بحيث لا يسمع . يقال : خفت الرجل بصوته إذا لم يرفعه ، والكلام على حذف مضاف .
والمعنى : ولا تجهر يا محمد فى قراءتك خلال الصلاة ، حتى لا يسمعها المشركون فيسبوا القرآن ، ولا تخافت بها ، حتى لا يسمعها من يكون خلفك ، بل أسلك فى ذلك طريقا وسطا بين الجهر والمخافتة .
ومما يدل على أن المراد بالصلاة هنا : القراءة فيها ، ما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس .
قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة ، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع ذلك المشركون ، سبوا القرآن ، ومن أنزله ومن جاء به ، فأمره الله بالتوسط .
وقيل : المراد بالصلاة هنا : الدعاء . أى : لا ترفع صوتك وأنت تدعو الله ، ولا تخافت به . وقد روى ذلك عن عائشة ، فقد أخرج الشيخان عنها أنها نزلت فى الدعاء .
ويبدو لنا أن التوجيهات التى بالآية الكريمة تتسع للقولين ، أى : أن على المسلم أن يكون متوسطًا فى رفع صوته بالقراءة فى الصلاة ، وفى رفع صوته حال دعائه .
هذا المشهد الموحي للذين أتوا العلم من قبل يعرضه السياق بعد تخيير القوم في أن يؤمنوا بهذا القرآن أولا يؤمنوا ، ثم يعقب عليه بتركهم يدعون اللّه بما بما شاءوا من الأسماء - وقد كانوا بسبب أوهامهم الجاهلية ينكرون تسمية اللّه بالرحمن ، ويستبعدون هذا الاسم من أسماء اللّه - فكلها اسماؤه فما شاءوا منها فليدعوه بها :
قل : ادعو اللّه أو ادعوا الرحمن . أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى .
وإن هي إلا سخافات الجاهلية وأوهام الوثنية التي لا تثبت للمناقشة والتعليل .
كذلك يؤمر الرسول [ ص ] أن يتوسط في صلاته بين الجهر والخفوت لما كانوا يقابلون به صلاته من استهزاء وايذاء ، أو من نفور وابتعاد ولعل الأمر كذلك لأن التوسط بين الجهر والخفاء أليق بالوقوف في حضرة الله :
يقول تعالى : قل يا محمد ، لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله ، عز وجل ، المانعين من تسميته بالرحمن : { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي : لا فرق بين دعائكم له باسم " الله " أو باسم{[17894]} " الرحمن " ، فإنه ذو الأسماء الحسنى ، كما قال تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } إلى أن قال : { لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ الحشر : 22 - 24 ] .
وقد روى مكحول{[17895]} أن رجلا من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في سجوده : " يا رحمن يا رحيم " ، فقال : إنه يزعم أنه يدعو واحدًا ، وهو يدعو اثنين . فأنزل الله هذه الآية . وكذا روي عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير .
وقوله : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } الآية ، قال الإمام أحمد :
حدثنا هُشَيْم ، حدثنا أبو بشر ، عن{[17896]} سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزلت{[17897]} هذه الآية وهو متوار بمكة { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا [ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ] }{[17898]} قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ، وسبوا من أنزله ، ومن جاء به . قال : فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } أي : بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن { وَلا تُخَافِتْ بِهَا } عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } .
أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس ، به{[17899]} وكذا روى{[17900]} الضحاك عن ابن عباس ، وزاد : " فلما هاجر إلى المدينة ، سقط ذلك ، يفعل أيّ ذلك شاء " {[17901]} .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي ، تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه ، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع{[17902]} من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي ، استرق السمع دونهم فرقًا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع{[17903]} ، ذهب خشية أذاهم فلم يستمع{[17904]} ، فإن خفض صوته صلى الله عليه وسلم{[17905]} لم يستمع الذين{[17906]} يستمعون من قراءته شيئًا ، فأنزل الله { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } فيتفرقوا عنك { وَلا تُخَافِتْ بِهَا } فلا تُسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم ، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع ، فينتفع به { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا }
وهكذا قال عكرمة ، والحسن البصري ، وقتادة : نزلت هذه الآية في القراءة في الصلاة .
وقال شعبة عن أشعث بن أبي سليم{[17907]} عن الأسود بن هلال ، عن ابن مسعود : لم يُخافتْ بها مَنْ أسمع أذنيه .
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته ، وأن عمر كان يرفع صوته ، فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا ؟ قال : أناجي ربي ، عز وجل ، وقد علم حاجتي . فقيل : أحسنت . وقيل لعمر : لم تصنع هذا ؟ قال : أطرد الشيطان ، وأوقظ الوَسْنَان . قيل أحسنت . فلما نزلت : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } قيل لأبي بكر : ارفع شيئًا ، وقيل لعمر : اخفض شيئًا{[17908]} .
وقال أشعث بن سَوَّار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : نزلت في الدعاء . وهكذا روى الثوري ، ومالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : نزلت في الدعاء . وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو عِياض ، ومكحول ، وعروة بن الزبير .
وقال الثوري عن [ ابن ]{[17909]} عياش العامري ، عن عبد الله بن شداد قال : كان أعراب من بني تميم إذا سلم النبي{[17910]} صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا إبلا وولدًا . قال : فنزلت هذه الآية : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
قول آخر : قال ابن جرير : حدثنا أبو السائب ، حدثنا حفص بن غياث ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، نزلت{[17911]} هذه الآية في التشهد : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
وبه قال حفص ، عن أشعث بن سوار ، عن محمد بن سيرين ، مثله .
قول آخر : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } قال : لا تصل مراءاة الناس ، ولا تدعها مخافة الناس . وقال الثوري ، عن منصور ، عن الحسن البصري : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } قال : لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها . وكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن ، به . وهُشَيْم ، عن عوف ، عنه به . وسعيد ، عن قتادة ، عنه كذلك .
قول آخر : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } قال : أهل الكتاب يخافتون ، ثم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح به ، ويصيحون هم به وراءه ، فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء ، وأن يخافت كما يخافت القوم ، ثم كان السبيل الذي بين ذلك ، الذي سن له جبريل من الصلاة .
{ قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاسمآء الحسنى } .
لا شك أن لنزول هذه الآية سبباً خاصاً إذ لا موجب لذكر هذا التخيير بين دعاء الله تعالى باسمه العَلَم وبين دعائه بصفة الرحمان خاصة دون ذكر غير تلك الصفة من صفات الله مثل : الرحيم أو العزيز وغيرهما من الصفات الحسنى .
ثم لا بد بعد ذلك من طلب المناسبة لوقوعها في هذا الموضع من السورة .
فأما سبب نزولها فروى الطبري والواحدي عن ابن عباس قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً يدعو يا رحمان يا رحيم ، فقال المشركون : هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو مثنى مثنى ، فأنزل الله تعالى : { قل ادعوا اللَّه أو ادعو الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } . وعليه فالاقتصار على التخيير في الدعاء بين اسم الله وبين صفة الرحمان اكتفاء ، أي أو الرحيم .
وفي « الكشاف » : عن ابن عباس سمع أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يا الله يا رحمان . فقال أبو جهل : إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهاً آخر . وأخرجه ابن مردويه . وهذا أنسب بالآية لاقتصارها على اسم الله وصفة الرحمان .
وأما موقعها هنا فيتعين أن يكون سبب نزولها حدثَ حين نزول الآية التي قبلها .
والكلام رد وتعليم بأن تعدد الأسماء لا يقتضي تعدد المسمى ، وشتان بين ذلك وبين دعاء المشركين آلهة مختلفة الأسماء والمسميات ، والتوحيد والإشراك يتعلقان بالذوات لا بالأسماء .
و ( أي ) اسم استفهام في الأصل ، فإذا اقترنت بها ( ما ) الزائدة أفادت الشرط كما تفيده كيف إذا اقترنت بها ( ما ) الزائدة . ولذلك جزم الفعل بعدها وهو { تدعوا } شرطاً ، وجيء لها بجواب مقترن بالفاء ، وهو { فله الأسماء الحسنى } .
والتحقيق أن { فله الأسماء الحسنى } علة الجواب . والتقدير : أي اسم من أسمائه تعالى تَدعون فلا حرج في دعائه بعدة أسماء إذ له الأسماء الحسنى وإذ المسمى واحد .
ومعنى { ادعوا اللَّه أو ادعوا الرحمن } ادعوا هذا الاسم أو هذا الاسم ، أي اذكروا في دعائكم هذا أو هذا ، فالمسمى واحد . وعلى هذا التفسير قد وقع تجوز في فعل { ادعوا } مستعملاً في معنى اذكروا أو سموا في دعائكم .
ويجوز أن يكون الدعاء مستعملاً في معنى سمّوا ، وهو حينئذٍ يتعدى إلى مفعولين . والتقدير : سموا ربكم اللّهَ أو سموه الرحمان ، وحذف المفعول الأول من الفعلين وأبقي الثاني لدلالة المقام .
{ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا }
لا شك أن لهذه الجملة اتصالاً بجملة { قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن } يؤيد ما تقدم في وجه اتصال قوله : { قل ادعوا الله أو ادعو الرحمن } بالآيات التي قبله ، فقد كان ذلك بسبب جهر النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه باسم الرحمان .
والصلاة : تحتمل الدعاء ، وتحتمل العبادة المعروفة . قود فسرها السلف هنا بالمعنيين . ومعلوم أن من فسر الصلاة بالعبادة المعروفة فإنما أراد قراءتها خاصة لأنها التي توصف بالجهر والمخافتة .
وعلى كلا الاحتمالين فقد جهر النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الرحمان ، فقال فريق من المشركين : ما الرحمان ؟ وقالوا : إن محمداً يدعو إلهين ، وقام فريق منهم يسب القرآن ومن جاء به ، أو يسب الرحمان ظناً أنه رب آخر غيرُ الله تعالى وغيرُ آلهتهم ، فأمر الله رسوله أن لا يجهر بدعائه أو لا يجهر بقراءة صلاته في الصلاة الجهرية .
ولعل سفهاء المشركين توهموا من صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة أو بالدعاء أنه يريد بذلك التحكك بهم والتطاول عليهم بذكر الله تعالى مجرداً عن ذكر آلهتهم فاغتاظوا وسبوا ، فأمره الله تعالى بأن لا يجهر بصلاته هذا الجهر تجنباً لما من شأنه أن يثير حفائظهم ويزيد تصلبهم في كفرهم في حين أن المقصود تليين قلوبهم .
والمقصود من الكلام النهي عن شدة الجهر .
وأما قوله تعالى : { ولا تخافت بها } فالمقصود منه الاحتراس لكيلا يجعل دعاءه سراً أو صلاته كلها سراً فلا يبلغ أسماع المتهيئين للاهتداء به ، لأن المقصود من النهي عن الجهر تجنب جهر يُتوهم منه الكفارُ تحككاً أو تطاولاً كما قلنا .
والجهر : قوة صوت الناطق بالكلام .
والمخافتة مفاعلة : من خَفَتَ بكلامه ، إذا أسر به . وصيغة المفاعلة مستعملة في معنى الشدة ، أي لا تُسرها .
وقوله : { ذلك } إشارة إلى المذكور ، أي الجهر والمخافتة المعلومين من فعلي { تجهر وتخافت أي اطلب سبيلاً بين الأمرين ليحصل المقصود من إسماع الناس القرآن وينتفي توهم قصد التطاول عليهم .