وبعد أن أمر الله - المسلم بأن يجعل التدين وحسن الخلق محط اختياره في الزواج ، أتبع ذلك بإرشاده إلى بعض الآداب التي يجب عليه أن يسلكها مع زوجه حتى تكون علاقتهما قائمة على ما يقتضيه الطبع السليم والخلق القويم وحتى تكون في أعلى درجات التطهر والتنزه والعفاف فقال - تعالى - :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا . . . }
روى الإِمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت أي لا يسكنون معهن - فسأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله - تعالى - : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى } . الآية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصنعوا كل شيء إلا النكاح . فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه . فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا : يارسول الله ، إن اليهود تقول كذا وكذا ، أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظنا أن قد وجد عليهما - أي غضب - فاستقبلتهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما ، فعرفا أن لم يجد عليهما .
والمحيض : الحيض مصدر حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحاضاً ومحيضا فهي حائض ، وأصله السيلان . يقال حاض الوادي إذا سال ، ومنه الحوض لسيلان الماء إليه .
ثم أطلق الحيض على ما يقذفه رحم المرأة من دم في أوقات مخصوصة على وجه مخصوص .
والأذى : الشيء الذي يتأذى منه الإِنسان ويصيبه الضرر بسببه .
والسؤال كان من بعض الصحابة ، لأنه لقوة إيمانهم كانوا يحبون أن يعرفوا حكم الإِسلام في شئونهم الخاصة والعامة ، ولأنهم وجدوا أن اليهود وغيرهم يعاملون المرأة في حال حيضها معاملة غير كريمة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر الذي يتصل بأدق العلاقات بين الرجل والمرأة وهو حكم مباشرة النساء في حال الحيض ، فأجابهم الله - تعالى - جواباً شافياً .
والمعنى : ويسألك أصحابك يا محمد عن حكم مباشرة النساء في حال الحيض فقل لهم معلماً وموجهاً : إن الحيض أي الدم الذي يلفظه رحم المرأة في وقت معين أذى يتأذى به الإِنسان تأذياً حسيماً جسيماً ، فرائحته يتأذى منها من يشمها ، وهو في ذاته شيء متقذر تعافه النفوس ، وتنفر منه الطباع .
وقوله : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } بيان للحكم المتفرع على تلك الحالة التي يتأذى منها وهي حالة الحيض .
والاعتزال : التباعد ، وهو هنا كناية عن ترك الجماع والمباشرة ، كما أن النهي عن قربهن كناية عن النهي عن جماعهن ، يقال : قرب الرجل امرأته إذا جامعها .
و { تَطَهَّرْنَ } من الطهر - بضم الطاء - بمعنى النقاء من الوسخ والقذر - .
والمعنى : عليكم أيها المؤمنون أن تمتنعوا عن مباشرة النساء في زمن حيضهن ، ولا تجامعوهن حتى يطهرن من ذلك ، لأن غشيانهن في هذه الحالة يؤذيكم بسبب عدم نقاء المحل الذي يكون فيه الغشيان للمرأة ، والمرأة أيضاً تتأذى من مباشرتها في زمن الحيض لأنها لا تكون في حالة تستسيغ معها المباشرة ، فجهازها التناسلي في حالة اضطراب ، وهيئتها العامة في حالة تجعلها من شأنها أن تنفر من الجماع ، والولد الذي يأتي عن طريق الجماع في حالة الحيض - على فرض إتيانه في هذه الحالة - كثيراً ما يأتي مشوها ضعيفا ، لأن النطفة إذا اختلطت بدم الحيض ، أخذت البويضات في التخلق قبل وقت صلاحيتها للتخلق النافع الذي يكون وقته بعد انتهاء فترة الحيض وقد قال بذلك الأطباء الثقاة .
وعرفه العرب القدامى بالتجربة ، قال أبو كبير الهزلي .
ومبرأ من كل غُبَّرِ حَيْضةٍ . . . وفساد مرضعة وداءٍ معضلِ
وقد أجمع العلماء - كما بينا - على أن المراد بالاعتزال هو اجتناب المباشرة ، إلا أنهم اختلفوا فيما يجب اعتزاله من المرأة بعد ذلك .
فبعضهم يرى اعتزال جميع بدن المرأة ، وحجتهم أن الله أمر باعتزال النساء ولم يخصص من ذلك شيئا دون شيء .
وبعضهم يرى اعتزال موضع الأذى - أي مكان خروج الدم - لقول النبي صلى الله عليه وسلم " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " .
وبعضهم يرى اعتزال ما بين السرة إلى الركبة من المرأة وله ما سوى ذلك ، لقول عائشة : كانت إحدانا إذا كانت حائضة أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأتزر ثم يباشرها . وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } تأكيد لحكم الاعتزال وتقرير له ، وتنبيه على أن المراد به عدم جماعهن لا عدم القرب منهن أو مخالطتهن أو الأكل معهن كما كان يفعل اليهود وبعض العرب .
والدليل على ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض " .
وروى البخاري عن عائشة - أيضاً - قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجرى وأنا حائض ثم يقرأ القرآن " .
وروى مسلم عنها أيضاً قالت : " كنت أشرب وأنا حائض ، ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب " .
وقوله : { حتى يَطْهُرْنَ } بيان لغاية الاعتزال . وقرأ حمزة الكسائي { حتى يَطْهُرْنَ } بفتح الطاء والهاء مع التشديد .
ومعناه عند جمهور الفقهاء ولا تجامعوهن حتى يغتسلن ، لأن القراءتين معناهما واحد ، ولأن الله - تعالى - قد علق الإِتيان على التطهر فقال : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } والتطهر هو الاغتسال . فالمرأة إذا انقطع حيضها لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد الاغتسال .
ويرى الأحناف أن معنى { حتى يَطْهُرْنَ } أي حتى ينقطع الدم ، لأنه إذا كان سبب الأذى هو الدم فانقطاعه طهور منه ، وبناء على ذلك فيجوز للرجل أن يباشر زوجته قبل أن تغتسل متى انقطع دمها لأقصى مدة الحيض ، وهو عشرة أيام .
أخذاً بالقراءة المشهورة { يَطْهُرْنَ } بالتخفيف . أما إذا انقطع الدم قبل ذلك فلا تحل مباشرتها إلا بالتأكد من زوال الدم بعمل من جانبها وهو الاغتسال الفعلي ، لأن قراءة { يَطْهُرْنَ } بالتشديد عندهم معناها يغتسلن .
وقال بعض الفقهاء يكفى في حلها أن تتوضأ عند انقطاع الدم .
ولكل فريق أدلته المبسوطة في كتب الفقه .
وفي هاتين الجملتين الكريمتين { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } من سمو التعبير ، وبديع الكناية ما يغرس في نس السامع حسن الأدب ، ويصون سمعه عن الألفاظ التي يجافي سماعها الأذواق السليمة ، وما أحود المسلمين إلى التأسي بهذا الأدب الذي يحفظ عليهم مرءوتهم وكرامتهم .
ثم قال - تعالى - : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } أي : فإذا تطهرن من المحيض فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله بتجنبه في الحيض وهو القبل ولا تتعدوه إلى غيره .
والأمر في قوله - تعالى - : { فَأْتُوهُنَّ } المراد به إباحة المباشرة ، لأن من المقرر عند العلماء أن الأمر بعد النهي يكون للإِباحة ، خصوصاً إذا كان الموضع موضع حل وإباحة لا موضع تكليف وإلزام ، وليس المراد به الحتم واللزوم ، لأن الإِتيان مبني على الرغبة والطاقة وشبه بهذا التعبير قوله - تعالى - { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض } وقوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } قال الجمل : ومن في قوله : " من حيث " فيها قولان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية ، أي من الجهة التي تنتهي إلى موضع الحيض .
والثاني : أن تكون بمعنى في أي المكان الذي نهيتم عنه في الحيض . ورجح بعهضم هذا بأنه ملائم لقوله { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } .
وعلى كلا القولين فالمقصود أن يأتي الرجل وزوجته في المكان الفطري الطبيعي لتلك العلاقة الجنسية ، وهو القبل إذ هو مكان البذر والإِنسال ، ولا يخرج عن ذلك إلا الذين
أصيبوا بشذوذ في عقولهم ، وضعف في دينهم .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين } .
والتواب صيغة مبالغة من تائب بمعنى راجع إلى ربه إذا زل وهفا .
والمتطهر : هو الإِنسان المتنزه عن الفواحش والأقذار .
أي : إن الله - تعالى - يحب عباده الذين يكثرون الرجوع إليه إذا ما ظلموا أنفسهم بسيئة من السيئات ، والذين يصونون أنفسهم وينزهونها عن المعاصي والآثام ، ويرىض عنهم في الدنيا والآخرة .
قال الآلوسي : { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين } مما عسى يبدر منهم من ارتكاب بعض الذنوب كالإِتيان في الحيض المستدى لعقاب الله - تعالى - فقد أخرج الإِمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى حائضاً فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " وهو جار مجرى الترهيب فلا يعارض ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال :
" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أصبت امرأتي وهي حائض فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتق نسمة " وهذا إذا كان الإِتيان في أول الحيض والدم أحمر ، أما إذا كان في آخره والدم أصفر فينبغي أن يتصدق بنصف دينار كما دلت عليه الآثار .
( ويسألونك عن المحيض . قل : هو أذى . فاعتزلوا النساء في المحيض ؛ ولا تقربوهن حتى يطهرن . فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله . إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين . نساؤكم حرث لكم . فأتوا حرثكم أنى شئتم ، وقدموا لأنفسكم ، واتقوا الله ، واعلموا أنكم ملاقوه ، وبشر المؤمنين ) . .
وهذه لفتة أخرى إلى تلك العلاقة ترفعها إلى الله ؛ وتسمو بأهدافها عن لذة الجسد حتى في أشد أجزائها علاقة بالجسد . . في المباشرة . .
إن المباشرة في تلك العلاقة وسيلة لا غاية . وسيلة لتحقيق هدف أعمق في طبيعة الحياة . هدف النسل وامتداد الحياة ، ووصلها كلها بعد ذلك بالله . والمباشرة في المحيض قد تحقق اللذة الحيوانية - مع ما ينشأ عنها من أذى ومن أضرار صحية مؤكدة للرجل والمرأة سواء - ولكنها لا تحقق الهدف الأسمى . فضلا على انصراف الفطرة السليمة النظيفة عنها في تلك الفترة . لأن الفطرة السليمة يحكمها من الداخل ذات القانون الذي يحكم الحياة . فتنصرف بطبعها - وفق هذا القانون - عن المباشرة في حالة ليس من الممكن أن يصح فيها غرس ، ولا أن تنبت منها حياة . والمباشرة في الطهر تحقق اللذة الطبيعية ، وتحقق معها الغاية الفطرية . ومن ثم جاء ذلك النهي إجابة عن ذلك السؤال : ( ويسألونك عن المحيض . قل : هو أذى . فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ) . .
وليست المسألة بعد ذلك فوضى ، ولا وفق الأهواء والانحرافات . إنما هي مقيدة بأمر الله ؛ فهي وظيفة ناشئة عن أمر وتكليف ، مقيدة بكيفية وحدود :
( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) . .
في منبت الإخصاب دون سواه . فليس الهدف هو مطلق الشهوة ، إنما الغرض هو امتداد الحياة . وابتغاء ما كتب الله . فالله يكتب الحلال ويفرضه ؛ والمسلم يبتغي هذا الحلال الذي كتبه له ربه ، ولا ينشىء هو نفسه ما يبتغيه . والله يفرض ما يفرض ليطهر عباده ، ويحب الذين يتوبون حين يخطئون ويعودون إليه مستغفرين :
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يُؤَاكلوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسأل أصحابُ النبي [ النبيَّ ]{[3832]} صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } حتى فرغ من الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " . فبلغ ذلك اليهود ، فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يَدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه ! فجاء أسيد بن حُضَير وعبَّاد بن بشر فقالا يا رسول الله ، إن اليهود قالت كذا وكذا ، أفلا نجامعهن ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن{[3833]} قد وَجَدَ عليهما ، فخرجا ، فاستقبلتهما{[3834]} هدية من لبن إلى رسول{[3835]} الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما ، فسقاهما ، فعرفا أن لم يَجدْ عليهما .
رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة{[3836]} .
فقوله : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } يعني [ في ]{[3837]} الفَرْج ، لقوله : " اصنعوا كل شيء إلا النكاح " {[3838]} ؛ ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه تجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج .
قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئًا ، ألقى على فرجها ثوبًا{[3839]} .
وقال أبو داود أيضًا : حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد الله - يعني ابن عمر بن غانم - عن عبد الرحمن - يعني ابن زياد - عن عمارة بن غُرَاب : أن عمَّة له حدثته : أنها سألت عائشة قالت : إحدانا تحيض ، وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد ؟ قالت : أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم : دخل فمضى إلى مسجده - قال أبو داود : تعني مسجد بيتها - فما انصرف حتى غلبتني عيني ، وأوجعه البرد ، فقال : " ادني مني " . فقلت : إني حائض . فقال : " اكشفي عن فخذيك " . فكشفت فخذي ، فوضع خدّه وصدره على فخذي ، وحنَيت{[3840]} عليه حتى دفئ ونام صلى الله عليه وسلم{[3841]} .
وقال : أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة : أن مسروقًا ركب إلى عائشة ، فقال : السلام على النبي وعلى أهله{[3842]} . فقالت عائشة : أبو{[3843]}
عائشة ! مرحبًا مرحبًا . فأذنوا له فدخل ، فقال : إني أريد أن أسألك{[3844]} عن شيء ، وأنا أستحي . فقالت : إنما أنا أمّك ، وأنت ابني . فقال : ما للرجل من امرأته وهي حائض ؟ فقالت : له كل شيء إلا فرجها{[3845]} .
ورواه أيضًا عن حميد بن مسعدة ، عن يزيد بن زريع ، عن عيينة بن عبد الرحمن بن جَوْشن ، عن مروان الأصفر ، عن مسروق قال : قلت لعائشة : ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا ؟ قالت : كل شيء إلا الجماع .
وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وعكرمة .
وروى ابن جرير أيضًا ، عن أبي كُرَيْب ، عن ابن أبي زائدة ، عن حجاج ، عن ميمون بن مِهْران ، عن عائشة قالت : له ما فوق الإزار .
قلت : وتحل مضاجعتها ومؤاكلتها بلا خلاف . قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض ، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض ، فيقرأ القرآن{[3846]} . وفي الصحيح عنها قالت : كنت أتعرّق العَرْق وأنا حائض ، فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه ، وأشرب الشراب فأناوله ، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب{[3847]} .
وقال أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا يحيى ، عن جابر بن صُبْح{[3848]} سمعت خلاسًا الهَجَري قال : سمعت عائشة تقول : كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد ، وإني حائض طامث ، فإن أصابه مني شيء ، غسل مكانه لم يَعْدُه ، وإن أصاب - يعني ثوبه - شيء غسل مكانه لم يَعْدُه ، وصلى فيه{[3849]} .
فأما ما رواه أبو داود : حدثنا سعيد بن عبد الجبار ، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد - عن أبي اليمان ، عن أم ذرة ، عن عائشة : أنها قالت : كنتُ إذا حضْتُ نزلت عن المثَال على الحصير ، فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر{[3850]} - فهو محمول{[3851]} على التنزه والاحتياط .
وقال آخرون : إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت : كان النبي{[3852]} صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض{[3853]} . وهذا لفظ البخاري . ولهما عن عائشة نحوه{[3854]} .
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة من حديث العلاء بن الحارث ، عن حزام بن حكيم ، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري : أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم : ما يَحِل لي من امرأتي وهي حائض ؟ قال : " ما{[3855]} فوق الإزار " {[3856]} .
ولأبي داود أيضًا ، عن معاذ بن جبل قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل لي من امرأتي وهي حائض{[3857]} . قال : " ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل " . وهو رواية عن عائشة - كما تقدم - وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وشريح .
فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها ، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله ، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم . ومأخذهم{[3858]} أنه حريم الفرج ، فهو حرام ، لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل ، الذي أجمع العلماء على تحريمه ، وهو المباشرة في الفرج . ثم من فعل ذلك فقد أثم ، فيستغفر الله ويتوب إليه . وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا ؟ فيه قولان :
أحدهما : نعم ، لما رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض : " يتصدق بدينار ، أو نصف دينار " {[3859]} . وفي لفظ للترمذي : " إذا كان دمًا أحمر فدينار ، وإن كان دمًا أصفر فنصف دينار " . وللإمام أحمد أيضًا ، عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض تصاب ، دينارًا فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل ، فنصف دينار .
والقول الثاني : وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي ، وقول الجمهور : أنه لا شيء في ذلك ، بل يستغفر الله عز وجل ، لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث ، فإنه [ قد ]{[3860]} روي مرفوعًا كما تقدم وموقوفًا ، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث ، فقوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } تفسير لقوله : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } ونهي عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودًا ، ومفهومه حله إذا انقطع ، [ وقد قال به طائفة من السلف . قال القرطبي : وقال مجاهد وعكرمة وطاوس : انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ ]{[3861]} .
وقوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال . وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة ، لقوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } وليس له في ذلك مستند ، لأن هذا أمر بعد الحظر . وفيه أقوال لعلماء الأصول ، منهم من يقول : إنه للوجوب كالمطلق . وهؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم ، ومنهم من يقول : إنه للإباحة ، ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب ، وفيه نظر . والذي ينهض عليه الدليل أنه يُرَدّ الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي ، فإن كان واجبًا فواجب ، كقوله تعالى :
{ فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 5 ] ، أو مباحًا فمباح ، كقوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [ المائدة : 2 ] ، { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ } [ الجمعة : 10 ] وعلى هذا القول تجتمع الأدلة ، وقد حكاه الغزالي وغيره ، واختاره بعض أئمة المتأخرين ، وهو الصحيح .
وقد اتفق العلماء{[3862]} على أن المرأة إذا انقطع حيضُها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم ، إن{[3863]} تعذر ذلك عليها بشرطه ، [ إلا يحيى بن بكير من المالكية وهو أحد شيوخ البخاري ، فإنه ذهب إلى إباحة وطء المرأة بمجرد انقطاع دم الحيض ، ومنهم من ينقله عن ابن عبد الحكم أيضا ، وقد حكاه القرطبي عن مجاهد وعكرمة عن طاوس كما تقدم ]{[3864]} . إلا أن أبا حنيفة ، رحمه الله ، يقول{[3865]} فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض ، وهو عشرة أيام عنده : إنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل [ ولا يصح لأقل من ذلك المزيد في حلها من الغسل ويدخل عليها وقت صلاة إلا أن تكون دمثة ، فيدخل بمجرد انقطاعه ]{[3866]} والله أعلم .
وقال ابن عباس : { حَتَّى يَطْهُرْنَ } أي : من الدم { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أي : بالماء . وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، ومقاتل بن حيان ، والليث بن سعد ، وغيرهم .
وقوله : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : يعني الفَرْج ؛ قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } يقول في الفرج ولا تَعْدوه{[3867]} إلى غيره ، فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى .
وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } أي : أن تعتزلوهن . وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر ، كما سيأتي تقريره قريبًا .
وقال أبو رَزين ، وعكرمة ، والضحاك وغير واحد : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } يعني : طاهرات غير حُيَّض ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } أي : من الذنب وإن تكرر{[3868]} غشْيانه ، { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } أي : المتنزهين عن{[3869]} الأقذار والأذى ، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض ، أو في غير المأتى .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ( 222 )
ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح( {[2108]} ) ، وقال قتادة وغيره : إنما سألوا لأن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها ، فنزلت هذه الآية ، وقال مجاهد : «كانوا يتجنبون النساء في الحيض ويأتونهن في أدبارهنّ فنزلت الآية في ذلك » ، والمحيض مصدر كالحيض ، ومثله المَقيل من قال يقيل ، قال الراعي : [ الكامل ] .
بُنِيَتْ مَرَافِقُهنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ . . . لا يستطيعُ بِهَا القُرَادُ مَقِيلا( {[2109]} )
قال الطبري : { المحيض } اسم الحيض ، ومنه قول رؤبة في المعيش : [ الرجز ] .
إليك أشكوا شِدَّةَ المَعِيشِ . . . وَمَرَّ أَعْوامٍ نَتَفْنَ ريشي
و { أذى } لفظ جامع لأشياء تؤذي لأنه دم وقذر ومنتن من سبيل البول ، وهذه عبارة المفسرين للفظة ، وقوله تعالى : { فاعتزلوا } يريد جماعهن( {[2110]} ) بما فسر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يشد الرجل إزار الحائض ثم شأنه بأعلاها( {[2111]} ) ، وهذا أصح ما ذهب إليه في الأمر ، وبه قال ابن عباس وشريح وسعيد بن جبير ومالك وجماعة عظيمة من العلماء ، وروي عن مجاهد أنه قال : «الذي يجب اعتزاله من الحائض الفرج وحده » وروي ذلك عن عائشة والشعبي وعكرمة ، وروي أيضاً عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت ، وهذا قول شاذ( {[2112]} ) ، وقد وقفت ابن عباس عليه خالته ميمونة رضي الله عنهما ، وقالت له : أرغبة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .
وقوله تعالى : { ولا تقربوهن حتى يطهرن } قرأ نافع وابن كثير وأبو كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه «يطْهُرْنَ » بسكون الطاء وضم الهاء ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل عنه «يطَّهَّرْنَ » بتشديد الطاء والهاء وفتحهما ، وفي مصحف أبيّ وعبد الله { حتى يتطهرن } ، وفي مصحف أنس بن مالك «ولا تقربوا النساء في محيضهن ، واعتزلوهن حتى يتطهرن »( {[2113]} ) ، ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء وقال : هي بمعنى يغتسلن لإجماع الجميع على أن حراماً على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر ، قال : وإنما الاختلاف في الطهر ما هو ؟ فقال قوم : هو الاغتسال بالماء . وقال قوم : هو وضوء كوضوء الصلاة . وقال قوم : هو غسل الفرج وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة . ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء إذ هو ثلاثي مضاد لطمثت ، وهو ثلاثي .
قال القاضي أبو محمد : وكل واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد به الاغتسال بالماء وأن يراد بها انقطاع الدم وزوال أذاه ، وما ذهب إليه الطبري من أن قراءة شد الطاء مضمنها الاغتسال وقراءة التخفيف مضمنها انقطاع الدم : أمر غير لازم ، وكذلك ادعاؤه الإجماع ، أما إنه لا خلاف في كراهة الوطء قبل الاغتسال بالماء ، وقال ابن عباس والأوزاعي : من فعله تصدق بنصف دينار ، ومن وطىء في الدم تصدق بدينار ، وأسند أبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى لله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال :«يتصدق بدينار أو بنصف دينار » ، وقال ابن عباس : «الدينار في الدم ، والنصف عند انقضائه » ، ووردت في الشدة في هذا الفعل آثار( {[2114]} ) ، وجمهور العلماء على أنه ذنب عظيم يتاب منه ولا كفارة فيه بمال ، وذهب مالك رحمه الله وجمهور العلماء إلى أن الطهر الذي يحل جماع الحائض التي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهور الجنب ، ولا يجزي من ذلك تيمم ولا غيره ، وقال يحيى بن بكير وابن القرظي( {[2115]} ) : إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلّت لزوجها وإن لم تغتسل . وقال مجاهد وعكرمة وطاوس : انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ . و { حتى } غاية لا غير ، و { تقربوهن } يريد بجماع ، وهذا من سد الذرائع( {[2116]} ) ، وقوله تعالى : { فإذا تطهرن } الآية ، القراءة { تَطَهَّرْنَ } بتاء مفتوحة وهاء مشددة ، والخلاف في معناه كما تقدم من التطهير بالماء أو انقطاع الدم . ومجاهد وجماعة من العلماء يقولون هنا : إنه أريد الغسل بالماء ، ولا بد بقرينة الأمر بالإتيان وإن كان قربهن قبل الغسل مباحاً ، لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى إلا على الوجه الأكمل ، و { فآتوهن } إباحة( {[2117]} ) ، والمعنى { من حيث أمركم الله } باعتزالهن وهو الفرج أو من السرة إلى الركبتين : أو جميع الجسد ، حسبما تقدم . هذا كله قول واحد ، وقال ابن عباس وأبو رزين : المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض ، وقاله الضحاك . وقال محمد بن الحنفية : المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنا ، وقيل : المعنى من قبل حال الإباحة ، لا صائمات ولا محرمات ولا غير ذلك . والتوابون : الراجعون ، وعرفه من الشر إلى الخير ، والمتطهرون : قال عطاء وغيره : المعنى بالماء ، وقال مجاهد وغيره : المعنى من الذنوب ، وقال أيضاً مجاهد : المعنى من إتيان النساء في أدبارهن .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط { أخرجوهم من قريتكم إنهم ناس يتطهرون }( {[2118]} ) [ الأعراف : 82 ] ، وقرأ طلحة بن مصرف «المطّهّرين » بشد الطاء والهاء .