ثم صور - سبحانه - حالهم عندما يعرضون للحساب فقال : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } .
أى : ولقد جئتمونا للحساب والجزاء منعزلين ومنفردين عن الأموال والأولاد وعن كل ما جمعتموه فى الدنيا من متاع ، أو منفردين عن الأصنام والأوثان التى زعمتهم أنها شفعاؤكم عند الله .
وفرادى قيل هو جمع فرد ، وفريد وقيل : هو اسم جمع لأن فرداً لا يجمع على فرادى وقول من قال إنه جمع : أراد أنه جمع له فى المعنى .
وهذه الجملة الكريمة مستأنفة جاءت لبيان ما سيقوله الله لهؤلاء الظالمين يوم القيامة ، بعد بيان ما تقوله ملائكة العذاب عند موتهم .
وقوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } تشبيه للمجىء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الذى كانوا ينكرونه فقد رأوه رأى العين .
أى : جئتمونا منعزلين عن كل ما كنتم تعتزون به فى الحياة الدنيا ، مجيئا مثل مجيئكم يوم خلقناكم أول مرة حفاة عراة . فالكاف فى محل نصب صفة لمصدر محذوف .
روى الشيخان عن ابن عباس قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : " أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا ( كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) " .
ورويا - أيضاً - عن عائشة قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تحشرون حفاة عراة غرلا . قالت : يا رسول الله ، الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال صلى الله عليه وسلم : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك " " .
وروى الطبرانى بسنده عن عائشة أنها قالت " قرأت قول الله - تعالى - { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } فقالت : يا رسول الله واسوأتاه ! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال ، شُغل بعضهم عن بعض " .
قوله : { وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } أى : تركتم ما أعطيناكم وملكناكم فى الدنيا من أموال وأولاد وغيرهما وراء ظهوركم ولم تحملوا منه معكم نقيرا عندما جئتمونا للحساب .
الخول : ما أعطاه الله لعباده من النعم : يقال : خوله الشىء تخويلا ، ملكه إياه ومكنه منه . ومنه التخول بمعنى التعهد .
والجملة الكريمة تتضمن توبيخهم ، لأنهم لم يقدموا منه شيئاً فى دنياهم ليكون نافعا لهم فى أخراهم ، بل جمعوه وتركوه لغيرهم دون أن ينتفعوا به فى معادهم .
وقد ثبت فى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول ابن آدم : مالى ! مالى ! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس " .
وقوله : { وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ } تقريع وتوبيخ لهم على شركهم .
أى : ما نرى وما نبصر معكم من زعمتم أنهم سيشفعون لكم عند الله من الأصنام والأوثان التى توهمتم أنهم شركاء لله تعالى فى ربوبيتكم واستحقاقه عبادتكم .
وقوله { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } أى : لقد تقطع الاتصال الذى كان بينكم فى الدنيا واضمحل .
ففاعل { تَّقَطَّعَ } ضمير يعود على الاتصال المدلول عليه بلفظ { شُرَكَآءُ } و { بَيْنَكُمْ } منصوب على الظرفية .
وقرىء بالرفع أى : لقد تقطع شملكم فإن البين مصدر يستعمل فى الوصل وفى الفراق بالاشتراك ؛ والأصل لقد تقطع ما بينكم وقد قرىء به أى : تقطع ما بينكم من الأسباب والصلات .
{ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أى : وغلب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء ، ورجاء الأنداد والأصنام . كما قال - تعالى - { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار } وهكذا يسوق القرآن مشهد هؤلاء الظالمين بتلك الصورة التى تهز النفوس ، وتحمل العقلاء على الإيمان والعمل الصالح .
ثم في النهاية ، ذلك التوبيخ والتأنيب من الله تعالى ، الذي كذبوا عليه ، وها هم أولاء بين يديه ، يواجههم في موقف الكربة والضيق :
( ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) !
فما معكم إلا ذواتكم مجردة ؛ ومفردة كذلك . تلقون ربكم أفرادا لا جماعة . كما خلقكم أول مرة أفرادا ، ينزل أحدكم من بطن أمة فردا عريان أجرد غلبان !
ولقد ند عنكم كل شيء ، وتفرق عنكم كل أحد ؛ وما عدتم تقدرون على شيء مما ملككم الله إياه ؛ ( وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم ) . .
تركتم كل شيء من مال وزينة ، وأولاد ومتاع ، وجاه وسلطان . . كله هناك متروك وراءكم ، ليس معكم شيء منه ، ولا تقدرون منه على قليل أو كثير !
( وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) . .
هؤلاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم في الشدائد ، وكنتم تشركونهم في حياتكم وأموالكم ، وتقولون : إنهم سيكونون عند الله شفعاءكم [ كالذين كانوا يقولون : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ! ) ] سواء كانوا ناسا من البشر كهانا أو ذوي سلطان ؛ أو كانوا تماثيل من الحجر ، أو أوثانا ، أو جنا أو ملائكة ، أو كواكب أو غيرها مما يرمزون به إلى الآلهة الزائفة ، ويجعلون له شركا في حياتهم وأموالهم وأولادهم كما سيجيء في السورة .
فأين ؟ أين ذهب الشركاء والشفعاء ؟
تقطع كل شيء . كل ما كان موصولا . كل سبب وكل حبل !
( وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) . .
وغاب عنكم كل ما كنتم تدعونه من شتى الدعاوى . ومنها أولئك الشركاء ، وما لهم من شفاعة عند الله أو تأثير في عالم الأسباب !
إنه المشهد الذي يهز القلب البشري هزا عنيفا . وهو يشخص ويتحرك ؛ ويلقي ظلاله على النفس ، ويسكب إيحاءاته في القلب ، ظلاله الرعيبة المكروبة ، وإيحاءاته العنيفة المرهوبة . .
وقوله : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : يقال لهم يوم معادهم هذا ، كما قال { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الكهف : 48 ] ، أي : كما بدأناكم أعدناكم ، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه ، فهذا يوم البعث .
وقوله : { وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ } أي : من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " .
وقال الحسن البصري : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَج فيقول الله ، عَزَّ وجل ، [ له ]{[10971]} أين ما جمعت ؟ فيقول يا رب ، جمعته وتركته أوفر ما كان ، فيقول : فأين ما قدمت لنفسك ؟ فلا يراه قدم شيئا ، وتلا هذه الآية : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في [ الدار ]{[10972]} الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ، ظانين أن تلك تنفعهم{[10973]} في معاشهم ومعادهم إن كان ثَمَّ{[10974]} معاد ، فإذا كان يوم القيامة تقطعت الأسباب ، وانزاح الضلال ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ، ويناديهم الرب ، عَزَّ وجل ، على رءوس الخلائق : { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 22 ] وقيل{[10975]} لهم { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشعراء : 92 ، 93 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } أي : في العبادة ، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم .
ثم قال تعالى : { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قُرئ بالرفع ، أي شملكم ، وقُرئ بالنصب ، أي : لقد انقطع ما بينكم{[10976]} من الوُصُلات والأسباب والوسائل { وَضَلَّ عَنْكُمْ } أي : وذهب عنكم { مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } من رجاء الأصنام ، كما قال : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ البقرة : 166 ، 167 ] ، وقال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، وقال { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] ، وقال { وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } الآية [ القصص : 64 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا } إلى قوله : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 22 - 24 ] ، والآيات في هذا كثيرة جدا .