التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

أما المثال الثاني فهو أشد وضوحا من سابقه على وحدانية الله - تعالى - ورحمته بعباده ، وعلى الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر ، ويتجلى هذا المثال في قوله - عز وجل - : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ . . } .

أي : وذكر الله - تعالى - مثلا آخر لرجلين ، { أحدهما أبكم } ، أي : لا يستطيع النطق أو الكلام ، ضعيف الفهم والتفهيم لغيره . { لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } ، أي : لا يقدر على فعل شيء من الأشياء المتعلقة بنفسه و بغيره . { وهو } ، أي : هذا الرجل { كَلٌّ على مَوْلاهُ } ، أي : حمل ثقيل ، وهم كبير على مولاه الذي يتولى شئونه من طعام وشراب وكساء وغير ذلك . وهذا بيان لعدم قدرته على القيام بمصالح نفسه ، بعد بيان عدم قدرته على القيام بفعل أي شيء على الإِطلاق .

قال القرطبي : قوله : { وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ } ، أي : ثقل على وليه وقرابته ، ووبال على صاحبه وابن عمه ، وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله ، ومنه قول الشاعر :

أكول لمال الكَلِّ قبل شبابه . . . إذا كان عظم الكلِّ غير شديد

فالكل هو الإِنسان العاجز الضعيف الذي يكون محتاجا إلى من يرعى شئونه .

وقوله : { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } ، أي : أن هذا الرجل حيثما يوجهه مولاه وكافله لقضاء أمر من الأمور يعود خائبا ؛ لعجزه ، وضعف حيلته ، وقلة إدراكه . .

فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هذا الرجل بأربع صفات تدل على سوء فهمه ، وقلة حيلته ، وثقله على ولي أمره ، وانسداد طرق الخير في وجهه . .

هذا هو الجانب الأول من المثل ، أما الجانب الثاني فيتجلى في قوله - تعالى - : { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . . } .

أي : { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ } ، أي : هذا الرجل الأبكم العاجز . . مع رجل آخر { يأمر } غيره بالعدل ، " وهو " ، أي : هذا الرجل الآخر في نفسه . { وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، أي : على دين قويم ، وخلق كريم ، فقد جمع بذلك بين فضيلتين جليلتين : نفعه لغيره ، وصلاحه في ذاته .

لا شك أن هذين الرجلين لا يستويان فى عقل أي عاقل ، إذ أن أولهما أبكم عاجز خائب . . وثانيهما منطيق ، ناصح لغيره ، جامع لخصال الخير فى نفسه .

ومادام الأمر كذلك فكيف سويتم - أيها المشركون الضالون المكذبون - في العبادة بين الله - تعالى - وهو الخالق لكل شئ ، وبين تلك الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن عابديها شيئا ؟ . أو كيف سويتم بين المؤمن الجامع لكل مكرمة ، وبين الكافر الغبي الأبله الذي آثر الغي على الرشد ، فتكون الآية الكريمة مسوقة لبيان الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر .

وقد قابل - سبحانه - الأوصاف الأربعة للرجل الأول ، بهذين الوصفين للرجل الثاني ؛ لأن حاصل أوصاف الأول أنه غير مستحق لشيء ، وحاصل وصفي الثاني أنه مستحق لكل فضل وخير .

وقوله : { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل . . . } ، معطوف على الضمير المستتر في قوله : { هل يستوى . . . } . وجملة { وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، في محل نصب على الحال .

وبذلك نرى أن الآيتين الكريمتين قد ساقتا مثلين واضحين ؛ لبيان الفرق الشاسع بين ذات الله - تعالى - الخلاق العليم ، الرزاق الكريم . . وبين تلك المعبودات الباطلة التي أشركها الضالون في العبادة مع الله - عز وجل - .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

51

( وضرب الله مثلا رجلين : أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير . هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم )

والمثل الثاني يصور الرجل الأبكم الضعيف البليد الذي لا يدري شيئا ولا يعود بخير . والرجل القوي المتكلم الآمر بالعدل ، العامل المستقيم على طريق الخير . . ولا يسوي عاقل بين هذا وذاك . فكيف تمكن التسوية بين ضم أو حجر ، وبين الله سبحانه وهو القادر العليم الآمر بالمعروف ، الهادي إلى الصراط المستقيم ؟

وبهذين المثلين يختم الشوط الذي بدأ بأمر الله للناس ألا يتخذوا إلهين اثنين ، وختم بالتعجيب من أمر قوم يتخذون إلهين اثنين !

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلّ عَلَىَ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجّههّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ } .

وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه والاَلهة التي تُعبد من دونه ، فقال تعالى ذكره : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجْلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ } ، يعني : بذلك الصنم ، أنه لا يسمع شيئا ولا ينطق ؛ لأنه إما خشب منحوت ، وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع لمن خدمه ، ولا دفع ضرّ عنه . { وهُوَ كَلّ على مَوْلاَهُ } ، يقول : وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته ، فكذلك الصنم كَلّ على من يعبده ، يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه ، كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء ، فهو كلّ على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم . { أيْنَما يُوجّهْهُ لا يَأْتِ بخَيْرٍ } ، يقول : حيثما يوجهه لا يأت بخير ؛ لأنه لا يفهم ما يُقال له ، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد ، فهو لا يفهم ولا يُفْهَم عنه ، فكذلك الصنم لا يعقل ما يقال له فيأتمر لأمر من أمره ، ولا ينطق فيأمر وينهي ، يقول الله تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بالعَدْلِ } يعني : هل يستوي هذا الأبكم الكلّ على مولاه ، الذي لا يأتي بخير حيث توجه ، ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ ويدعو إليه ، وهو : الله الواحد القهار الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته ؟ يقول : لا يستوي هو تعالى ذكره ، والصنم الذي صفته ما وصف . وقوله : { وَهُوَ على صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } يقول : وهو مع أمره بالعدل ، على طريق من الحقّ في دعائه إلى العدل وأمره به مستقيم ، لا يَعْوَجّ عن الحقّ ولا يزول عنه .

وقد اختلف أهل التأويل في المضروب له هذا المثل ، فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ } قال : هو : الوثن . { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بالعَدْلِ } ، قال : الله يأمر بالعدل . { وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، وكذلك كان مجاهد يقول ، إلا أنه كان يقول : المثل الأوّل أيضا ضربه الله لنفسه وللوثَن .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى ذكره : { عَبْدا مَمْلُوكا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ } { وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنّا رِزْقا حَسَنا } و{ رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ } { وَمَنْ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ } قال : كل هذا مثل إله الحقّ ، وما يُدعي من دونه من الباطل .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَجْلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ } قال : إنما هذا مثل ضربه الله .

وقال آخرون : بل كلا المثلين للمؤمن والكافر . وذلك قول يُروَى عن ابن عباس ، وقد ذكرنا الرواية عنه في المثل الأوّل في موضعه .

وأما في المثل الآخر :

فحدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَضَرَب اللّهُ مْثَلاً رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلّ عَلى مَوْلاهُ } . . . إلى آخر الاَية ، يعني بالأبكم : الذي هو كَلّ على مولاه الكافر ، وبقوله : { وَمَنْ يَأْمُرُ بالعَدْلِ } ، المؤمن ، وهذا المثل في الأعمال .

حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، قال : حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني ، قال : حدثنا حماد ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن إبراهيم ، عن عكرمة ، عن يَعْلى بن أمية ، عن ابن عباس ، في قوله : { ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدا مَمْلُوكا } قال : نزلت في رجل من قريش وعبده . وفي قوله : { مَثَلاً رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ على شَيْءٍ } . . . إلى قوله : { وَهُوَ عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } ، قال : هو عثمان بن عفان . قال : والأبكم الذي أينما يُوَجّهُ لا يأت بخير ، ذاك مولى عثمان بن عفّان ، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة ، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه ، وينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما .

وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في المثل الأوّل ؛ لأنه تعالى ذكره مثّل مثَل الكافر بالعبد الذي وصف صفته ، ومَثّل مثل المؤمن بالذي رزقه رزقا حسنا فهو ينفق مما رزقه سرّا وجهرا ، فلم يجز أن يكون ذلك لله مثلاً ، إذ كان الله إنما مثّل الكافر الذي لا يقدر على شيء بأنه لم يرزقه رزقا ينفق منه سرّا ، ومثّل المؤمن الذي وفّقه الله لطاعته فهداه لرشده ، فهو يعمل بما يرضاه الله ، كالحرّ الذي بسط له في الرزق فهو ينفق منه سرّا وجهرا ، والله تعالى ذكره هو الرازق غير المرزوق ، فغير جائز أن يمثل إفضاله وجوده بإنفاق المرزوق الرزق الحسن . وأما المثل الثاني ، فإنه تمثيل منه تعالى ذكره مَنْ مثله الأبكم الذي لا يقدر على شيء ، والكفار لا شكّ أن منهم من له الأموال الكثيرة ، ومن يضرّ أحيانا الضرّ العظيم بفساده ، فغير كائن ما لا يقدر على شيء ، كما قال تعالى ذكره مثلاً ، لمن يقدر على أشياء كثيرة . فإذا كان ذلك كذلك ، كان أولى المعاني به تمثيل ما لا يقدر على شيء ، كما قال تعالى ذكره بمثله ما لا يقدر على شيء ، وذلك الوثن الذي لا يقدر على شيء ، بالأبكم الكَلّ على مولاه الذي لا يقدر على شيء ، كما قال ووصف .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

هذا مثل لله عز وجل والأصنام ، فهي : كالأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء ، وهو عيال على من والاه من قريب أو صديق ، و «الكَلّ » ، الثقل والمؤنة ، وكل محمول فهو كَلّ ، وسمي اليتيم كلاً ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

أكول المال الكَلِّ قبل شبابه . . . إذا كان عظم الكَلِّ غير شديد{[7382]}

كما الأصنام ؛ تحتاج إلى أن تنقل وتخدم ويتعذب بها ، ثم لا يأتي من جهتها خير البتة ، هذا قول قتادة ، وقال ابن عباس : هو مثل للكافر ، وقرأ ابن مسعود : «يوجه » {[7383]} ، وقرأ علقمة : «يوجِّهُ » ، وقرأ الجمهور : «يوجهه » ، وهي خط المصحف ، وقرأ يحيى بن وثاب : «يُوجَّه »{[7384]} ، وقرأ ابن مسعود أيضاً : «توجهه » ، على الخطاب ، وضعف أبو حاتم قراءة علقمة ؛ لأنه لازم{[7385]} ، والذي : { يأمر بالعدل } ، هو : الله تعالى ، وقال ابن عباس : هو : المؤمن . و«الصراط » ، الطريق .


[7382]:البيت في (اللسان) غير منسوب، والكل هو اليتيم، سمى بذلك لأنه ثقيل على من يكلفه، يقول هاجيا: إنه يأكل مال اليتيم في صغره ووقت ضعفه عن حماية نفسه.
[7383]:بهاء واحدة ساكنة مبنيا، والفاعل ضمير يعود على (مولاة)، وضمير المفعول محذوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير عند ابن جني: أينما يوجه وجهه، ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدا على "الأبكم"، ويكون الفعل لازما، لأن (وجه) تأتي بمعنى (توجه)، كأن المعنى: أينما يتوجه. وهي قراءة علقمة أيضا، وابن وثاب، ومجاهد، وطلحة.
[7384]:بهاء واحدة ساكنة أيضا، ولكن الفعل مبني للمفعول، وهي أيضا قراءة ابن وثاب، وطلحة.
[7385]:قال أبو حيان في البحر المحيط (5 ـ 520): تعليقا على قراءة علقمة "والذي توجه عليه هذه القراءة ـ إن صحت ـ أن [أينما] شرط حملت على (إذا) لجامع ما اشتركا فيه من الشرطية، ثم حذفت الياء من [يأت] تخفيفا، أو لجزمه على توهم أنه نطق ب[أينما] المهملة معملة كقراءة من قرأ: {إنه من يتق ويصبر} في أحد الوجهين، ويكون معنى [يوجه] يتوجه، فهو فعل لازم لا متعد".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (76)

هذا تمثيل ثانٍ للحالتين بحالتين باختلاف وجه الشبّه . فاعتبر هنا المعنى الحاصل من حال الأبكم ، وهو العجز عن الإدراك ، وعن العمل ، وتعذّر الفائدة منه في سائر أحواله ؛ والمعنى الحاصل من حال الرجل الكامل العقل والنّطق في إدراكه الخيرَ وهديه إليه وإتقانِ عمله وعمل من يهديه ، ضربه الله مثلاً لكماله وإرشاده الناس إلى الحقّ ، ومثلاً للأصنام الجامدة التي لا تنفع ولا تضرّ .

وقد قرن في التمثيل هنا حال الرجلين ابتداء ، ثم فصل في آخر الكلام مع ذكر عدم التّسوية بينهما بأسلوب من نظم الكلام بديع الإيجاز ، إذ حذف من صدر التمثيل ذكر الرجل الثاني للاقتصار على ذكره في استنتاج عدم التسوية تفنّناً في المخالفة بين أسلوب هذا التمثيل وأسلوب سابقه الذي في قوله تعالى : { ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً } [ سورة النحل : 75 ] . ومثْل هذا التفنّن من مقاصد البلغاء كراهية للتكرير لأن تكرير الأسلوب بمنزلة تكرير الألفاظ .

والأبكم : الموصوف بالبَكم بفتح الباء والكاف وهو الخَرَس في أصل الخلقة من وقت الولادة بحيث لا يفهم ولا يُفهم . وزيد في وصفه أنه زَمِنٌ لا يقدر على شيء . وتقدّم عند قوله تعالى : { صم بكم عمي } في أول سورة البقرة ( 18 ) .

والكَلّ بفتح الكاف العالَة على الناس . وفي الحديث مَن تَرَك كَلاّ فعلينا ، أي من ترك عِيالاً فنحن نكفلهم . وأصل الكلّ : الثّقَل . ونشأت عنه معاننٍ مجازية اشتهرت فساوت الحقيقة .

والمولى : الذي يلي أمر غيره . والمعنى : هو عالة على كافله لا يدبّر أمر نفسه . وتقدّم عند قوله تعالى : { بل الله مولاكم } في سورة آل عمران ( 15 ) ، وقوله تعالى : { وردّوا إلى الله مولاهم الحقّ } في سورة يونس ( 30 ) .

ثم زاد وصفه بقلّة الجدوى بقوله تعالى : { أينما يوجّهه } ، أي مولاه في عمل ليعمله أو يأتي به لا يأتِ بخير ، أي لا يهتدي إلى ما وجّه إليه ، لأن الخير هو ما فيه تحصيل الغرض من الفعل ونفعه .

ودلّت صلة { يأمر بالعدل } على أنه حكيم عالم بالحقائق ناصح للناس يأمرهم بالعدل لأنه لا يأمر بذلك إلا وقد علمه وتبصّر فيه .

والعدل : الحقّ والصواب الموافق للواقع .

والصراط المستقيم : المحجّة التي لا التواء فيها . وأطلق هنا على العمل الصالح ، لأن العمل يشبّه بالسيرة والسلوك فإذا كان صالحاً كان كالسلوك في طريق موصلة للمقصود واضحة فهو لا يستوي مع من لا يعرف هدى ولا يستطيع إرشاداً ، بل هو محتاج إلى من يكفله .

فالأول مثَل الأصنام الجامدة التي لا تفقه وهي محتاجة إلى من يحرسها وينفض عنها الغبار والوسخ ، والثاني مثل لكماله تعالى في ذاته وإفاضته الخير على عباده .