التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (126)

ثم ساق القرآن بعد ذلك نماذج من الدعوات التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } أي : أضرع إليك يا إلهي أن تجعل الموضع الذي فيه بيتك مكانا يأنس إليه الناس ، ويأمنون فيه من الخوف ، ويجدون فيه كل ما يرجون من أمان واطمئنان .

والمشار إليه بقوله : { هذا } مكة المكرمة . والبلد كل قطعة من الأرض عامرة أو غامرة .

والمقصود بالدعاء إنما هو أمن أهله لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد ، وإنما يلحقان أهل البلد .

قال الإِمام الرازي : وإنما قال هنا { بَلَداً آمِناً } على التنكير ، وقال في سورة إبراهيم { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } على التعريف لوجهين :

الأول : أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً ، كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلداً آمناً .

والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً ، فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً ذا أمن وسلامة .

والثاني : أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلداً ، فقوله : { اجعل هذا بَلَداً آمِناً } تقديره : أجعل هذا البلد بلداً آمنا كقولك : كان اليوم يوماً حاراً ، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفة بالحرارة ، لأأن التنكير يدل على المبالغة فقوله : رب اجعل هذا البلد بلداً آمنا معناه : اجعله من البلدان الكاملة في الأمن . وأما قوله : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } فليس فيه إلا طلب الامن لا طلب المبالغة .

أما الدعوة الثانية التي توجه بها إبراهيم إلى ربه من أجل أهل مكة فقد حكاها القرآن في قوله :

{ وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر } .

أي : كما أسألك يا إلهي أن تجعل هذا لبلد بلداً آمنا . أسألك كذلك أن ترزق المؤمنين من أهله من الثمرات ما يسد حاجاتهم ، ويغنيهم من الاحتياج إلى غيرك .

وقوله : " ارزق " مأخوذ من رزقه يرزقه إذا أعطاه ما ينتفع به من مأكول وغيره .

والثمرات : جمع ثمرة ، وهي ما يحمله شجر أو زرع أو غيره من النبات . وإنما طلب إبراهيم - عليه السلام - من الله أن يجعل مكة بلدا آمناً ، وأن يرزق أهلها من الثمرات بما يغنيهم لأن البلد إذا امتدت إليه ظلال الأمن ، وكانت مطالب الحياة فيه ميسرة ، أقبل أهله على طاعة الله بقلوب مطمئنة وتفرغوا لذلك بنفوس مستقرة .

وقال في دعائه : { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر } لأن أهل مكة قد يكون من بينهم كافرون ، فأراد تخصيص المؤمنين منهم بدعائه ، لذا أتبع قوله : { وارزق أَهْلَهُ } بقوله : { مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } على وجه البدل فصار المعنى وارزق المؤمنين من أهله على ما تقتضيه القاعدة العربية من أن البدل وهو هنا { مَنْ آمَنَ } هو المقصود بطلب الرزق .

وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصاً على شيوع الإِيمان بين سكان مكة ، لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم إنما هي خاصة بالمؤمنين تجنبوا ما يبعدهم عن الإِيمان ، أو أنه خص المؤمنين بذلك تأدباً مع الله - تعالى - إذ سأله سؤالا أقرب إلى الإِجابة ، ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } فقال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإِجراء رزق الله عليهم .

واقتصر على ذكر الإِيمان بالله واليوم الآخر في التعبير عن المؤمنين لأن الإِيمان بالله واليوم الآخر لا يقع على الوجه الحق إلا إذا صاحبه الإِيمان بكتب الله ورسله وملائكته .

ثم بين - سبحانه - مصير الكافرين فقال : { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير } .

الضمير في ( قال ) يعود إلى الله - تعالى - ومن في قوله ( من كفر ) منصوب بفعل مقدر دلي عليه " فأمتعه " والمعنى : قال الله وأرزق من كفر وايراد المتكلم قولا من عنده معطوفاً على قول متكلم آخر مألوف في اللغة العربية ، ويحسن موقعه عندما يقتضي المقام إيجازاً في القول ، ولولا هذا العطف لكان المعنى متطلباً لأن يقال : قال الله أرزق من آمن ومن كفر .

{ فَأُمَتِّعُهُ } : من التمتع وهو إعطاء ما ينتفع به . و { قَلِيلاً } : وصف لمصدر محذوف في النظم ، والمعنى : أمتعه تمتيعاً قليلا . ووصف التمتع في الدنيا بالقلة ، لأنه صائر إلى نفاد وانقطاع .

و { أَضْطَرُّهُ } أي الجثة وأسوقه بعد متاعه في الدنيا إلى عذاب لا يمكنه الإِنفكاك عنه وجملة " ثم اضطره إلى عذاب النار " احتراس من أن يغتر الكافر بأن تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضا الله فلذلك ذكر العذاب هنا .

{ وَبِئْسَ } فعل يستعمل لذم المرفوع بعده ، وهو ما يسميه النحاة بالمخصوص بالذم ، ووردت هنا لذم النار المقدرة في الجملة ، والمعنى : بئس المصير النار . أي أنها مصير سيء كما قال تعالى في آية أخرى .

{ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } وقد أفادت الآية الكريمة أن الله يرزق الكافر في الدنيا كما يرزق المؤمن وإذا كان إمتاع المؤمن بالرزق لأنه أهل لأن ينعم عليه بكل خير ، فإمتاع الكافر بالرزق له حكم منها استدراجه المشار إليه بقوله تعالى :

{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ولو خص الله المؤمنين بالتوسعة في الرزق وحرم منها الكافرين لكان هذا التخصيص سائقا للكافرين إلى الإِيمان على وجه يشبه الإِلجاء . وقد قضت حكمته - تعالى - أن يكون الإِيمان اختيارياً حتى ينساق الإِنسان من طريق النظر في أدلة عقلية يبصر بها أقوام ولا يبصر بها آخرون .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (126)

124

( وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا بلدا آمنا ، وارزق أهله من الثمرات . . من آمن منهم بالله واليوم الآخر . . قال : ومن كفر فأمتعه قليلا ، ثم أضطره إلى عذاب النار ، وبئس المصير ) . .

ومرة أخرى يؤكد دعاء إبراهيم صفة الأمن للبيت . ومرة أخرى يؤكد معنى الوراثة للفضل والخير . . إن إبراهيم قد أفاد من عظة ربه له في الأولى . لقد وعى منذ أن قال له ربه : ( لا ينال عهدي الظالمين ) . .

وعى هذا الدرس . . فهو هنا ، في دعائه أن يرزق الله أهل هذا البلد من الثمرات ، يحترس ويستثني ويحدد من يعني :

( من آمن منهم بالله واليوم الآخر ) . .

إنه إبراهيم الأواه الحليم القانت المستقيم ، يتأدب بالأدب الذي علمه ربه ، فيراعيه في طلبه ودعائه . . وعندئذ يجيئه رد ربه مكملا ومبينا عن الشطر الآخر الذي سكت عنه . شطر الذين لا يؤمنون ، ومصيرهم الأليم :

( قال : ومن كفر فأمتعه قليلا ، ثم أضطره إلى عذاب النار ، وبئس المصير ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (126)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً ، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ، قَالَ : وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ أَضْطَرّهُ إِلَىَ عَذَابِ النّارِ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }

يعني تعالى ذكره بقوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدَا آمِنا } : واذكروا إذ قال إبراهيم : ربّ اجعل هذا البلد بلدا آمنا ، يعني بقوله : آمنا : آمنا من الجبابرة وغيرهم أن يسلطوا عليه ، ومن عقوبة الله أن تناله ، كما تنال سائر البلدان ، من خسف ، وانتقال ، وغرق ، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن الحرم حُرّم بحياله إلى العرش ، وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط ، قال الله له : أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين ، حتى إذا كان زمان الطوفان حين أغرق الله قوم نوح رفعه وطهّره ولم تصبه عقوبة أهل الأرض ، فتتبع منه إبراهيم أثرا فبناه على أساس قديم كان قبله .

فإن قال لنا قائل : أَوَ ما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الأمان ؟

قيل له : لقد اختُلِف في ذلك ، فقال بعضهم : لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه ، منذ خلقت السموات والأرض . واعتلوا في ذلك بما :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، قال : سمعت أبا شريح الخزاعي يقول : لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلاً من هُذيل ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال : «يا أَيّها النّاسُ إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللّهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ لا يَحِلّ لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِها دَما ، أوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرا . ألا وَإِنّهَا لاَ تَحِلّ لأحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحِلّ لِي إِلاّ هَذِهِ السّاعَةَ عصي عليّ أَهْلُها . ألا فَهِيَ قَدْ رَجَعَتْ على حالِهَا بالأمْسِ . ألا لِيُبَلّغِ الشّاهِدُ الغَائِبَ ، فمن قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها ، فقولوا : إنّ الله قَدْ أَحَلّهَا لرسولِهِ ولم يُحِلّها لكَ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وحدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير جميعا ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة حين افتتحها : «هَذِهِ حَرَمٌ حَرّمَهَا اللّهُ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَخَلَقَ الشّمْسَ وَالقَمَرَ وَوَضَعَ هَذَيْنِ الأخْشَبَيْنِ ، لَمْ تَحِلّ لأحَدٍ قَبْلِي ، وَلاَ تَحِلّ لأحَدٍ بَعْدِي ، أُحِلّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نهَارٍ » .

قالوا : فمكة منذ خلقت حَرَمٌ آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة .

قالوا : وقد أخبرَت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها .

قالوا : ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة ، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجُدوب والقحُوط ، وأن يرزق ساكنه من الثمرات ، كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } .

قالوا : وإنما سأل ربه ذلك ، لأنه أسكن فيه ذرّيته ، وهو غير ذي زَرْعٍ ولا ضَرْع ، فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا ، فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه .

قالوا : وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم ، وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه ، وهو القائل حين حله ، ونزله بأهله وولده : { رَبّنا إني أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ } ؟ قالوا : فلو كان إبراهيم هو الذي حرّم الحرم أو سأل ربه تحريمه لما قال : «عند بيتك المحرّم » ، عند نزوله به ، ولكنه حرّم قبله ، وحرّم بعده .

وقال آخرون : كان الحرم حلالاً قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره ، وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه ، كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالاً قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها .

قالوا : والدليل على ما قلنا من ذلك ما :

حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ إبْرَاهِيمَ حَرّمَ بَيْتَ اللّهِ وأَمّنَهُ ، وإني حَرّمْتُ المَدِينَةَ ما بَيْنَ لابَتَيْها لا يُصَادُ صَيْدُها وَلا تُقْطَعُ عِضَاهُها » .

حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا عبد الرحيم الرازي ، سمعت أشعث ، عن نافع ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللّهِ وَخَلِيلَهُ ، وإني عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ ، وَإِنّ إِبْرَاهِيمَ حَرّمَ مَكّةَ وإني حَرّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا عِضَاهَا وَصَيْدَها ، وَلاَ يُحْمَلُ فِيها سِلاحٌ لِقِتالٍ ، وَلا يُقْطَعُ مِنْها شَجَرٌ إلا لعَلَفِ بَعِيرٍ » .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا بكر بن مضر ، عن ابن الهاد ، عن أبي بكر بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن رافع بن خديج ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ إِبْرَاهِيمَ حَرّمَ مَكّةَ ، وإني أُحَرّمُ المَدِينَةَ مَا بَيْتَ لاَبَتَيْها » . وأما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب .

قالوا : وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال : { رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا }ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض ، فليس لأحد أن يدّعي أن الذي سأله من ذلك الأمان له من بعض الأشياء دون بعض إلا بحجة يجب التسليم لها .

قالوا : وأما خبر أبي شريح وابن عباس فخبران لا تثبت بهما حجة لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها .

والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها ، كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه حرّمها يوم خلق السموات والأرض بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله ، ولكن بمنعه من أرادها بسوء ، وبدفعه عنها من الاَفات والعقوبات ، وعن ساكنيها ما أحلّ بغيرها وغير ساكنيها من النقمات فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله ، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل ، فسأل حينئذٍ إبراهيم ربه إيجاد فرض تحريمها على عباده على لسانه ، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه ، يستنّون بها فيها ، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلاً ، وأخبره أنه جاعله للناس إماما يقتدى به ، فأجابه ربه إلى ما سأله ، وألزم عباده حينئذٍ فرض تحريمه على لسانه ، فصارت مكة بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده ، ومحرّمة بدفع الله عنها بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام ، وواجب على عباده الامتناع من استحلالها ، واستحلال صيدها وعضاهها ، بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ » لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به ، دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكِلاءة والحفظ لها قبل ذلك كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه ، لزم العباد فرضه دون غيره .

فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين ، أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ الشّمْسَ وَالقَمَرَ » . وخبر جابر وأبي هريرة ورافع بن خديج وغيرهم ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «اللّهُمّ إِنّ إبْرَاهِيمَ حَرّمَ مَكّةَ » وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الاَخر كما ظنه بعض الجهال .

وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا إذا ثبت صحتها ، وقد جاء الخبران اللذان رُويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه .

وقول إبراهيم عليه السلام : { رَبّنا إني أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ } ، فإنه إن يكن قال قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه ، فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرّمه بحياطته إياه وكلاءته من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد لهم بذلك . وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على لسانه على خلقه على وجه التعبد ، فلا مسألة لأحد علينا في ذلك .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } .

وهذه مسألة من إبراهيم ربه أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات دون كافريهم . وخصّ بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين لما أعلمه الله عند مسألته إياه أن يجعل من ذرّيته أئمة يقتدي بهم أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده ، والظالم الذي لا يدرك ولايته . فلما أعلم أن من ذرّيته الظالم والكافر ، خصّ بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة المؤمن منهم دون الكافر ، وقال الله له : إني قد أجبت دعاءك ، وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم ، فأمتعه به قليلاً . وأما «مَنْ » في قوله : مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ فإنه نصب على الترجمة والبيان عن الأهل ، كما قال تعالى : يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتَالِ فِيهِ بمعنى : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام ، وكما قال تعالى ذكره : { ولِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } بمعنى : ولله حجّ البيت على من استطاع إليه سبيلاً .

وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك لأنه حلّ بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل ، فسأل أن يرزق أهله ثمرا ، وأنه يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ، فذكر أن إبراهيم لما سأل ذلك ربه نقل الله الطائف من فلسطين .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا هشام ، قال : قرأت على محمد بن مسلم أن إبراهيم لما دعا للحرم وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ نقل الله الطائف من فلسطين .

القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً .

اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول وفي وجه قراءته ، فقال بعضهم : قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره ، وتأويله على قولهم :

{ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً } برزقي من الثمرات في الدنيا إلى أن يأتيه أجله . وقرأ قائل هذه المقالة ذلك : { فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً } بتشديد التاء ورفع العين . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : حدثني أبو العالية ، عن أُبيّ بن كعب في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ اضْطَرّهُ إِلَى عَذَابِ النّارِ } قال : هو قول الربّ تعالى ذكره .

حدثنا بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق لما قال إبراهيم : { رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } ، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية ، انقطاعا إلى الله ومحبة وفراقا لمن خالف أمره ، وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كان منهم ظالم لا ينال عهده ، بخبره عن ذلك حين أخبره فقال الله : وَمَنْ كَفَرَ فإني أرزق البرّ والفاجر فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً .

وقال آخرون : بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمَن على وجه المسألة منه ربه أن يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام ، مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلاً ، ثم اضْطَرّهُ إلى عذاب النار بتخفيف «التاء » وجزم «العين » وفتح «الراء » من اضْطَرّه ، وفصل «ثم اضطره » بغير قطع ألفها ، على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال أبو العالية : كان ابن عباس يقول : ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلاً .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ليث ، عن مجاهد : { وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً } يقول : ومن كفر فأرزقه أيضا ثم اضطره إلى عذاب النار .

والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل ، ما قاله أُبيّ بن كعب وقراءته ، لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك ، وشذوذ ما خالفه من القراءة . وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهُو ، على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله .

وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : قال الله : يا إبراهيم قد أجبت دعوتك ، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم ، ثم اضطرّ كفارهم بعد ذلك إلى النار .

وأما قوله : { فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً } يعني : فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته متاعا يتمتع به إلى وقت مماته .

وإنما قلنا إن ذلك كذلك لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لإبراهيم جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة ، فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره . وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه .

وقال بعضهم : تأويله : فأمتعه بالبقاء في الدنيا . وقال غيره : فأمتعه قليلاً في كفره ما أقام بمكة ، حتى أبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيقتله إن أقام على كفره أو يجليه عنها . وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه لما وصفنا .

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ أضْطَرّهُ إلى عَذَابِ النّارِ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : { ثُمّ أضْطَرّهُ إلى عَذَابِ النّارِ } ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها ، كما قال تعالى ذكره : { يَوْمَ يُدَعّونَ إلى نارِ جَهَنّمَ دَعّا } .

ومعنى الاضطرار : الإكراه ، يقال : اضطررت فلانا إلى هذا الأمر : إذا ألجأته إليه وحملته عليه . فذلك معنى قوله : { ثُمّ اضْطَرّهُ إلى عَذَابِ النّارِ } أدفعه إليها ، وأسوقه سحبا وجرّا على وجهه .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَبِئْسَ المَصِير } .

قد دللنا على أن «بِئْس » أصله «بَئِس » من البؤس ، سُكّن ثانيه ونقلت حركة ثانية إلى أوله ، كما قيل للكَبِد كِبْدٌ ، وما أشبه ذلك . ومعنى الكلام : وساء المصير عذاب النار ، بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها . وأما المصير فإنه مفعل من قول القائل : صرت مصيرا صالحا ، وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (126)

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }( 126 )

وقوله تعالى : { وإذا قال إبراهيم } الآية ، دعا إبراهيم عليه السلام لذريته وغيرهم بمكة بالأمن ورغد العيش ، و { اجعل } لفظه الأمر وهو في حق الله تعالى رغبة ودعاء ، و { آمناً } معناه من الجبابرة والمسلطين والعدو المستأصل والمثلات( {[1242]} ) التي تحل بالبلاد .

وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفراً لا ماء فيه ولا نبات ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيره ، ونبتت فيها أنواع الثمرات .

وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم أمر جبريل صلوات الله عليه فاقتلع فلسطين ، وقيل قطعة من الأردن فطاف بها حول البيت سبعاً وأنزلها بوجّ( {[1243]} ) ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف( {[1244]} ) .

واختلف في تحريم مكة متى كان ؟ فقالت فرقة : جعلها الله حراماً يوم خلق السموات والأرض ، وقالت فرقة : حرمها إبراهيم .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والأول قاله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته ثاني يوم الفتح( {[1245]} ) ، والثاني قاله أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح عنه : «اللهم إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ، ما بين لابتيها حرام »( {[1246]} )

ولا تعارض بين الحديثين ، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه ، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان ، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور( {[1247]} ) ، وكل مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه ، عظم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى ، وذكر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالاً لنفسه ، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضاً من قبل الله تعالى من نافذ قضائه وسابق علمه ، و { من } بدل من قوله { أهله } ، وخص إبراهيم المؤمنين بدعائه . ( {[1248]} )

وقوله تعالى : { ومن كفر } الآية قال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما : هذا القول من الله عز وجل لإبراهيم ، وقرؤوا «فأمتّعه » بضم الهمزة وفتح الميم وشد التاء ، «ثم أضطُّره » بقطع الألف وضم الراء ، وكذلك قرأ السبعة حاشا ابن عامر ، فإنه قرأ «فأمْتِعه » بضم الهمزة وسكون الميم وتخفيف التاء ، { ثم أضطره } بقطع الألف ، وقرأ يحيى بن وثاب «فأمتعه » كما قرأ ابن عامر «ثم إضطره » بكسر الهمزة على لغة قريش في قولهم لا إخال ، وقرأ أبي بن كعب «فنمتعه » «ثم نضطره »( {[1249]} ) ، و { من } شرط والجواب في { فأمتعه } ، وموضع { من } رفع على الابتداء والخبر( {[1250]} ) ، ويصح أن يكون موضعها نصباً على تقدير وأرزق من كفر ، فلا تكون شرطاً .

وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هذا القول هو من إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وقرؤوا «فأَمْتعه » بفتح الهمزة وسكون الميم «ثم اضطره » بوصل الألف وفتح الراء ، وقرئت بالكسر ، ويجوز فيها الضم ، وقرأ ابن محيصن «ثم اطّره » بإدغام الضاد في الطاء ، وقرأ يزيد بن أبي حبيب «ثم اضطُره » بضم الطاء .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين( {[1251]} ) .

و { قليلاً } معناه مدة العمر ، لأن متاع الدنيا قليل ، وهو نعت إما لمصدر كأنه قال : متاعاً قليلاً : وإما لزمان ، كأنه قال : وقتاً قليلاً أو زمناً قليلاً ، و { المصير } مفعل كموضع من صار يصير : و «بيس » أصلها بئس ، وقد تقدمت في «بيسما »( {[1252]} ) ، وأمتعه معناه أخوله الدنيا وأبقيه فيها بقاء قليلاً ، لأنه فان منقض ، وأصل المتاع الزاد ، ثم استعمل فيما يكون آخر أمر الإنسان أو عطائه أو أفعاله ، قال الشاعر [ سليمان بن عبد الملك ] : [ الطويل ]

وَقَفْتُ على قَبْرٍ غريبٍ بقفرةٍ . . . متاع قليل من حبيبٍ مفارقِ( {[1253]} )

ومنه تمتيع الزوجات( {[1254]} ) ، ويضطر الله الكافر إلى النار جزاء على كفره .


[1242]:- جمع مثلة وهي العقوبة، ومنه قوله تعالى: (وقد خلت من قبلهم المثلات) أي أنواع العذاب التي أصابت القرون الماضية.
[1243]:- بلد بالطائف، وقيل: هو الطائف، وقيل: واد بالطائف، انظر القاموس.
[1244]:- يعني أن الطائف قطعة من الشام ببركة دعاء إبراهيم عليه السلام.
[1245]:- أخرجه الشيخان وغيرهما عن ابن عباس وغيره.
[1246]:- خرجه البخاري ومسلم وغيرهما. وفي اللسان: اللابة: هي الأرض، ألبستها حجارة سود، (عن الأصمعي)، والجمع لابات.
[1247]:- وحاصله أنه لا منافاة بين الأحاديث التي أثبتت أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وبين الأحاديث التي أثبتت أن إبراهيم حرمها، لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها، وأنها لم تزل حرما آمنا عند الله من قبل بناء إبراهيم عليه السلام، كما أن رسول الله كان مكتوبا عند الله خاتم النبيئين وأن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) الآية، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه. وأجاب شيخ التفسير الإمام (ط) رحمه الله بأنها كانت حراما، إلا أن الله لم يتعبد الخلق بذلك فلما سأله إبراهيم عليه السلام حرمها وتعبدهم بذلك، وكل من الجوابين له موضع حسن.
[1248]:- أي لما سبق من قوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) فدعا هنا للمؤمنين دون الظالمين تأدبا مع الله تبارك وتعالى.
[1249]:- تعددت القراءات في هذا المقام، وحاصل ذلك أن قراءة السبعة، وقراءة ابن وثاب، وقراءة أبي بن كعب، وقراءة ابن محيص، وقراءة يزيد بن أبي حبيب- هذه القراءات كلها تدل على الخبرية في الفعلين معا- وأن القول من الله تعالى لإبراهيم- وأما قراءة ابن عباس ومجاهد وغيرهما فهي على الأمر في الفعلين معا، ويكون القول عليها من إبراهيم عليه السلام، وهذه القراءة شاذة، ويأباها السياق، ولا يقبلها نظم الكلام، والله أعلم. وقد خلط ابن عطية رحمه الله في عرض القراءات فتأمل.
[1250]:- عبارة أبي حيان: "ومن يحتمل أن تكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره: وأرزق من كفر فأمتعه، ويكون فأمتعه معطوفا على ذلك الفعل المحذوف- ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء إما موصولا وإما شرطا، والفاء جواب الشرط أو الداخلة في خبر الموصول لشبهه باسم الشرط، وهو توضيح لما قاله ابن عطية رحمه الله، الذي قد يأتي أحيانا بشيء من الإجحاف والإلفاف في كلامه".
[1251]:- مبني على قراءة الأمر، وهي قراءة ابن عباس ومن معه.
[1252]:- ابن عطية وأكثر علماء المغرب العربي يميلون إلى التسهيل و التخفيف، ويعدون عدم الهمز أولى من الهمز.
[1253]:- هذا البيت تقدم عند قوله تعالى: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) وقد أنشده سليمان بن عبد الملك بعد دفن ولده أيوب- ومن المعروف أن الوقوف على القبر آخر ما يكون من الأعمال بين الأقارب والأنساب.
[1254]:- فإنه يكون في آخر الحياة الزوجية عند الطلاق.