ثم ساق القرآن بعد ذلك نماذج من الدعوات التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } أي : أضرع إليك يا إلهي أن تجعل الموضع الذي فيه بيتك مكانا يأنس إليه الناس ، ويأمنون فيه من الخوف ، ويجدون فيه كل ما يرجون من أمان واطمئنان .
والمشار إليه بقوله : { هذا } مكة المكرمة . والبلد كل قطعة من الأرض عامرة أو غامرة .
والمقصود بالدعاء إنما هو أمن أهله لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد ، وإنما يلحقان أهل البلد .
قال الإِمام الرازي : وإنما قال هنا { بَلَداً آمِناً } على التنكير ، وقال في سورة إبراهيم { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } على التعريف لوجهين :
الأول : أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً ، كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلداً آمناً .
والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً ، فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً ذا أمن وسلامة .
والثاني : أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلداً ، فقوله : { اجعل هذا بَلَداً آمِناً } تقديره : أجعل هذا البلد بلداً آمنا كقولك : كان اليوم يوماً حاراً ، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفة بالحرارة ، لأأن التنكير يدل على المبالغة فقوله : رب اجعل هذا البلد بلداً آمنا معناه : اجعله من البلدان الكاملة في الأمن . وأما قوله : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } فليس فيه إلا طلب الامن لا طلب المبالغة .
أما الدعوة الثانية التي توجه بها إبراهيم إلى ربه من أجل أهل مكة فقد حكاها القرآن في قوله :
{ وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر } .
أي : كما أسألك يا إلهي أن تجعل هذا لبلد بلداً آمنا . أسألك كذلك أن ترزق المؤمنين من أهله من الثمرات ما يسد حاجاتهم ، ويغنيهم من الاحتياج إلى غيرك .
وقوله : " ارزق " مأخوذ من رزقه يرزقه إذا أعطاه ما ينتفع به من مأكول وغيره .
والثمرات : جمع ثمرة ، وهي ما يحمله شجر أو زرع أو غيره من النبات . وإنما طلب إبراهيم - عليه السلام - من الله أن يجعل مكة بلدا آمناً ، وأن يرزق أهلها من الثمرات بما يغنيهم لأن البلد إذا امتدت إليه ظلال الأمن ، وكانت مطالب الحياة فيه ميسرة ، أقبل أهله على طاعة الله بقلوب مطمئنة وتفرغوا لذلك بنفوس مستقرة .
وقال في دعائه : { مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر } لأن أهل مكة قد يكون من بينهم كافرون ، فأراد تخصيص المؤمنين منهم بدعائه ، لذا أتبع قوله : { وارزق أَهْلَهُ } بقوله : { مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } على وجه البدل فصار المعنى وارزق المؤمنين من أهله على ما تقتضيه القاعدة العربية من أن البدل وهو هنا { مَنْ آمَنَ } هو المقصود بطلب الرزق .
وخص إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصاً على شيوع الإِيمان بين سكان مكة ، لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم إنما هي خاصة بالمؤمنين تجنبوا ما يبعدهم عن الإِيمان ، أو أنه خص المؤمنين بذلك تأدباً مع الله - تعالى - إذ سأله سؤالا أقرب إلى الإِجابة ، ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } فقال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإِجراء رزق الله عليهم .
واقتصر على ذكر الإِيمان بالله واليوم الآخر في التعبير عن المؤمنين لأن الإِيمان بالله واليوم الآخر لا يقع على الوجه الحق إلا إذا صاحبه الإِيمان بكتب الله ورسله وملائكته .
ثم بين - سبحانه - مصير الكافرين فقال : { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير } .
الضمير في ( قال ) يعود إلى الله - تعالى - ومن في قوله ( من كفر ) منصوب بفعل مقدر دلي عليه " فأمتعه " والمعنى : قال الله وأرزق من كفر وايراد المتكلم قولا من عنده معطوفاً على قول متكلم آخر مألوف في اللغة العربية ، ويحسن موقعه عندما يقتضي المقام إيجازاً في القول ، ولولا هذا العطف لكان المعنى متطلباً لأن يقال : قال الله أرزق من آمن ومن كفر .
{ فَأُمَتِّعُهُ } : من التمتع وهو إعطاء ما ينتفع به . و { قَلِيلاً } : وصف لمصدر محذوف في النظم ، والمعنى : أمتعه تمتيعاً قليلا . ووصف التمتع في الدنيا بالقلة ، لأنه صائر إلى نفاد وانقطاع .
و { أَضْطَرُّهُ } أي الجثة وأسوقه بعد متاعه في الدنيا إلى عذاب لا يمكنه الإِنفكاك عنه وجملة " ثم اضطره إلى عذاب النار " احتراس من أن يغتر الكافر بأن تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضا الله فلذلك ذكر العذاب هنا .
{ وَبِئْسَ } فعل يستعمل لذم المرفوع بعده ، وهو ما يسميه النحاة بالمخصوص بالذم ، ووردت هنا لذم النار المقدرة في الجملة ، والمعنى : بئس المصير النار . أي أنها مصير سيء كما قال تعالى في آية أخرى .
{ إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } وقد أفادت الآية الكريمة أن الله يرزق الكافر في الدنيا كما يرزق المؤمن وإذا كان إمتاع المؤمن بالرزق لأنه أهل لأن ينعم عليه بكل خير ، فإمتاع الكافر بالرزق له حكم منها استدراجه المشار إليه بقوله تعالى :
{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ولو خص الله المؤمنين بالتوسعة في الرزق وحرم منها الكافرين لكان هذا التخصيص سائقا للكافرين إلى الإِيمان على وجه يشبه الإِلجاء . وقد قضت حكمته - تعالى - أن يكون الإِيمان اختيارياً حتى ينساق الإِنسان من طريق النظر في أدلة عقلية يبصر بها أقوام ولا يبصر بها آخرون .
( وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا بلدا آمنا ، وارزق أهله من الثمرات . . من آمن منهم بالله واليوم الآخر . . قال : ومن كفر فأمتعه قليلا ، ثم أضطره إلى عذاب النار ، وبئس المصير ) . .
ومرة أخرى يؤكد دعاء إبراهيم صفة الأمن للبيت . ومرة أخرى يؤكد معنى الوراثة للفضل والخير . . إن إبراهيم قد أفاد من عظة ربه له في الأولى . لقد وعى منذ أن قال له ربه : ( لا ينال عهدي الظالمين ) . .
وعى هذا الدرس . . فهو هنا ، في دعائه أن يرزق الله أهل هذا البلد من الثمرات ، يحترس ويستثني ويحدد من يعني :
( من آمن منهم بالله واليوم الآخر ) . .
إنه إبراهيم الأواه الحليم القانت المستقيم ، يتأدب بالأدب الذي علمه ربه ، فيراعيه في طلبه ودعائه . . وعندئذ يجيئه رد ربه مكملا ومبينا عن الشطر الآخر الذي سكت عنه . شطر الذين لا يؤمنون ، ومصيرهم الأليم :
( قال : ومن كفر فأمتعه قليلا ، ثم أضطره إلى عذاب النار ، وبئس المصير ) . .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هََذَا بَلَداً آمِناً ، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ ، قَالَ : وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ أَضْطَرّهُ إِلَىَ عَذَابِ النّارِ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
يعني تعالى ذكره بقوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدَا آمِنا } : واذكروا إذ قال إبراهيم : ربّ اجعل هذا البلد بلدا آمنا ، يعني بقوله : آمنا : آمنا من الجبابرة وغيرهم أن يسلطوا عليه ، ومن عقوبة الله أن تناله ، كما تنال سائر البلدان ، من خسف ، وانتقال ، وغرق ، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن الحرم حُرّم بحياله إلى العرش ، وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط ، قال الله له : أهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين ، حتى إذا كان زمان الطوفان حين أغرق الله قوم نوح رفعه وطهّره ولم تصبه عقوبة أهل الأرض ، فتتبع منه إبراهيم أثرا فبناه على أساس قديم كان قبله .
فإن قال لنا قائل : أَوَ ما كان الحرم آمنا إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الأمان ؟
قيل له : لقد اختُلِف في ذلك ، فقال بعضهم : لم يزل الحرم آمنا من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه ، منذ خلقت السموات والأرض . واعتلوا في ذلك بما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري ، قال : سمعت أبا شريح الخزاعي يقول : لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلاً من هُذيل ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال : «يا أَيّها النّاسُ إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللّهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ لا يَحِلّ لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِها دَما ، أوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرا . ألا وَإِنّهَا لاَ تَحِلّ لأحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحِلّ لِي إِلاّ هَذِهِ السّاعَةَ عصي عليّ أَهْلُها . ألا فَهِيَ قَدْ رَجَعَتْ على حالِهَا بالأمْسِ . ألا لِيُبَلّغِ الشّاهِدُ الغَائِبَ ، فمن قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها ، فقولوا : إنّ الله قَدْ أَحَلّهَا لرسولِهِ ولم يُحِلّها لكَ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وحدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير جميعا ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة حين افتتحها : «هَذِهِ حَرَمٌ حَرّمَهَا اللّهُ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَخَلَقَ الشّمْسَ وَالقَمَرَ وَوَضَعَ هَذَيْنِ الأخْشَبَيْنِ ، لَمْ تَحِلّ لأحَدٍ قَبْلِي ، وَلاَ تَحِلّ لأحَدٍ بَعْدِي ، أُحِلّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نهَارٍ » .
قالوا : فمكة منذ خلقت حَرَمٌ آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة .
قالوا : وقد أخبرَت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها .
قالوا : ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة ، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجُدوب والقحُوط ، وأن يرزق ساكنه من الثمرات ، كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } .
قالوا : وإنما سأل ربه ذلك ، لأنه أسكن فيه ذرّيته ، وهو غير ذي زَرْعٍ ولا ضَرْع ، فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعا وعطشا ، فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه .
قالوا : وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم ، وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه ، وهو القائل حين حله ، ونزله بأهله وولده : { رَبّنا إني أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ } ؟ قالوا : فلو كان إبراهيم هو الذي حرّم الحرم أو سأل ربه تحريمه لما قال : «عند بيتك المحرّم » ، عند نزوله به ، ولكنه حرّم قبله ، وحرّم بعده .
وقال آخرون : كان الحرم حلالاً قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره ، وإنما صار حراما بتحريم إبراهيم إياه ، كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالاً قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها .
قالوا : والدليل على ما قلنا من ذلك ما :
حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ إبْرَاهِيمَ حَرّمَ بَيْتَ اللّهِ وأَمّنَهُ ، وإني حَرّمْتُ المَدِينَةَ ما بَيْنَ لابَتَيْها لا يُصَادُ صَيْدُها وَلا تُقْطَعُ عِضَاهُها » .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب ، قالا : حدثنا عبد الرحيم الرازي ، سمعت أشعث ، عن نافع ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللّهِ وَخَلِيلَهُ ، وإني عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ ، وَإِنّ إِبْرَاهِيمَ حَرّمَ مَكّةَ وإني حَرّمْتُ المَدِينَةَ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا عِضَاهَا وَصَيْدَها ، وَلاَ يُحْمَلُ فِيها سِلاحٌ لِقِتالٍ ، وَلا يُقْطَعُ مِنْها شَجَرٌ إلا لعَلَفِ بَعِيرٍ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدثنا بكر بن مضر ، عن ابن الهاد ، عن أبي بكر بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن رافع بن خديج ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ إِبْرَاهِيمَ حَرّمَ مَكّةَ ، وإني أُحَرّمُ المَدِينَةَ مَا بَيْتَ لاَبَتَيْها » . وأما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب .
قالوا : وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال : { رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا }ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض ، فليس لأحد أن يدّعي أن الذي سأله من ذلك الأمان له من بعض الأشياء دون بعض إلا بحجة يجب التسليم لها .
قالوا : وأما خبر أبي شريح وابن عباس فخبران لا تثبت بهما حجة لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها .
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرما حين خلقها وأنشأها ، كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه حرّمها يوم خلق السموات والأرض بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله ، ولكن بمنعه من أرادها بسوء ، وبدفعه عنها من الاَفات والعقوبات ، وعن ساكنيها ما أحلّ بغيرها وغير ساكنيها من النقمات فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله ، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسماعيل ، فسأل حينئذٍ إبراهيم ربه إيجاد فرض تحريمها على عباده على لسانه ، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه ، يستنّون بها فيها ، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلاً ، وأخبره أنه جاعله للناس إماما يقتدى به ، فأجابه ربه إلى ما سأله ، وألزم عباده حينئذٍ فرض تحريمه على لسانه ، فصارت مكة بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده ، ومحرّمة بدفع الله عنها بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام ، وواجب على عباده الامتناع من استحلالها ، واستحلال صيدها وعضاهها ، بإيجابه الامتناع من ذلك ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه بذلك إليهم فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ » لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به ، دون التحريم الذي لم يزل متعبدا لها به على وجه الكِلاءة والحفظ لها قبل ذلك كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه ، لزم العباد فرضه دون غيره .
فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين ، أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إِنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ الشّمْسَ وَالقَمَرَ » . وخبر جابر وأبي هريرة ورافع بن خديج وغيرهم ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «اللّهُمّ إِنّ إبْرَاهِيمَ حَرّمَ مَكّةَ » وأن ليس أحدهما دافعا صحة معنى الاَخر كما ظنه بعض الجهال .
وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعا بعضا إذا ثبت صحتها ، وقد جاء الخبران اللذان رُويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيئا ظاهرا مستفيضا يقطع عذر من بلغه .
وقول إبراهيم عليه السلام : { رَبّنا إني أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ } ، فإنه إن يكن قال قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه ، فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرّمه بحياطته إياه وكلاءته من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد لهم بذلك . وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على لسانه على خلقه على وجه التعبد ، فلا مسألة لأحد علينا في ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } .
وهذه مسألة من إبراهيم ربه أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات دون كافريهم . وخصّ بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين لما أعلمه الله عند مسألته إياه أن يجعل من ذرّيته أئمة يقتدي بهم أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده ، والظالم الذي لا يدرك ولايته . فلما أعلم أن من ذرّيته الظالم والكافر ، خصّ بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة المؤمن منهم دون الكافر ، وقال الله له : إني قد أجبت دعاءك ، وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم ، فأمتعه به قليلاً . وأما «مَنْ » في قوله : مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ فإنه نصب على الترجمة والبيان عن الأهل ، كما قال تعالى : يَسْألُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الحَرَامِ قِتَالِ فِيهِ بمعنى : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام ، وكما قال تعالى ذكره : { ولِلّهِ على النّاسِ حِجّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً } بمعنى : ولله حجّ البيت على من استطاع إليه سبيلاً .
وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك لأنه حلّ بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل ، فسأل أن يرزق أهله ثمرا ، وأنه يجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ، فذكر أن إبراهيم لما سأل ذلك ربه نقل الله الطائف من فلسطين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا هشام ، قال : قرأت على محمد بن مسلم أن إبراهيم لما دعا للحرم وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ نقل الله الطائف من فلسطين .
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً .
اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول وفي وجه قراءته ، فقال بعضهم : قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره ، وتأويله على قولهم :
{ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً } برزقي من الثمرات في الدنيا إلى أن يأتيه أجله . وقرأ قائل هذه المقالة ذلك : { فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً } بتشديد التاء ورفع العين . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : حدثني أبو العالية ، عن أُبيّ بن كعب في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمّ اضْطَرّهُ إِلَى عَذَابِ النّارِ } قال : هو قول الربّ تعالى ذكره .
حدثنا بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق لما قال إبراهيم : { رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } ، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية ، انقطاعا إلى الله ومحبة وفراقا لمن خالف أمره ، وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كان منهم ظالم لا ينال عهده ، بخبره عن ذلك حين أخبره فقال الله : وَمَنْ كَفَرَ فإني أرزق البرّ والفاجر فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً .
وقال آخرون : بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمَن على وجه المسألة منه ربه أن يرزق الكافر أيضا من الثمرات بالبلد الحرام ، مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلاً ، ثم اضْطَرّهُ إلى عذاب النار بتخفيف «التاء » وجزم «العين » وفتح «الراء » من اضْطَرّه ، وفصل «ثم اضطره » بغير قطع ألفها ، على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال أبو العالية : كان ابن عباس يقول : ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلاً .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن ليث ، عن مجاهد : { وَمَنْ كَفَرَ فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً } يقول : ومن كفر فأرزقه أيضا ثم اضطره إلى عذاب النار .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل ، ما قاله أُبيّ بن كعب وقراءته ، لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك ، وشذوذ ما خالفه من القراءة . وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزا عليه في نقله الخطأ والسهُو ، على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله .
وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : قال الله : يا إبراهيم قد أجبت دعوتك ، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم متاعا لهم إلى بلوغ آجالهم ، ثم اضطرّ كفارهم بعد ذلك إلى النار .
وأما قوله : { فَأمَتّعُهُ قَلِيلاً } يعني : فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته متاعا يتمتع به إلى وقت مماته .
وإنما قلنا إن ذلك كذلك لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لإبراهيم جوابا لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة ، فكان معلوما بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره . وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه .
وقال بعضهم : تأويله : فأمتعه بالبقاء في الدنيا . وقال غيره : فأمتعه قليلاً في كفره ما أقام بمكة ، حتى أبعث محمدا صلى الله عليه وسلم فيقتله إن أقام على كفره أو يجليه عنها . وذلك وإن كان وجها يحتمله الكلام فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه لما وصفنا .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ أضْطَرّهُ إلى عَذَابِ النّارِ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { ثُمّ أضْطَرّهُ إلى عَذَابِ النّارِ } ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها ، كما قال تعالى ذكره : { يَوْمَ يُدَعّونَ إلى نارِ جَهَنّمَ دَعّا } .
ومعنى الاضطرار : الإكراه ، يقال : اضطررت فلانا إلى هذا الأمر : إذا ألجأته إليه وحملته عليه . فذلك معنى قوله : { ثُمّ اضْطَرّهُ إلى عَذَابِ النّارِ } أدفعه إليها ، وأسوقه سحبا وجرّا على وجهه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَبِئْسَ المَصِير } .
قد دللنا على أن «بِئْس » أصله «بَئِس » من البؤس ، سُكّن ثانيه ونقلت حركة ثانية إلى أوله ، كما قيل للكَبِد كِبْدٌ ، وما أشبه ذلك . ومعنى الكلام : وساء المصير عذاب النار ، بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم فيها . وأما المصير فإنه مفعل من قول القائل : صرت مصيرا صالحا ، وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار .
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }( 126 )
وقوله تعالى : { وإذا قال إبراهيم } الآية ، دعا إبراهيم عليه السلام لذريته وغيرهم بمكة بالأمن ورغد العيش ، و { اجعل } لفظه الأمر وهو في حق الله تعالى رغبة ودعاء ، و { آمناً } معناه من الجبابرة والمسلطين والعدو المستأصل والمثلات( {[1242]} ) التي تحل بالبلاد .
وكانت مكة وما يليها حين ذلك قفراً لا ماء فيه ولا نبات ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيره ، ونبتت فيها أنواع الثمرات .
وروي أن الله تعالى لما دعاه إبراهيم أمر جبريل صلوات الله عليه فاقتلع فلسطين ، وقيل قطعة من الأردن فطاف بها حول البيت سبعاً وأنزلها بوجّ( {[1243]} ) ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف( {[1244]} ) .
واختلف في تحريم مكة متى كان ؟ فقالت فرقة : جعلها الله حراماً يوم خلق السموات والأرض ، وقالت فرقة : حرمها إبراهيم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والأول قاله النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته ثاني يوم الفتح( {[1245]} ) ، والثاني قاله أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح عنه : «اللهم إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ، ما بين لابتيها حرام »( {[1246]} )
ولا تعارض بين الحديثين ، لأن الأول إخبار بسابق علم الله فيها وقضائه ، وكون الحرمة مدة آدم وأوقات عمارة القطر بإيمان ، والثاني إخبار بتجديد إبراهيم لحرمتها وإظهاره ذلك بعد الدثور( {[1247]} ) ، وكل مقال من هذين الإخبارين حسن في مقامه ، عظم الحرمة ثاني يوم الفتح على المؤمنين بإسناد التحريم إلى الله تعالى ، وذكر إبراهيم عند تحريمه المدينة مثالاً لنفسه ، ولا محالة أن تحريم المدينة هو أيضاً من قبل الله تعالى من نافذ قضائه وسابق علمه ، و { من } بدل من قوله { أهله } ، وخص إبراهيم المؤمنين بدعائه . ( {[1248]} )
وقوله تعالى : { ومن كفر } الآية قال أبي بن كعب وابن إسحاق وغيرهما : هذا القول من الله عز وجل لإبراهيم ، وقرؤوا «فأمتّعه » بضم الهمزة وفتح الميم وشد التاء ، «ثم أضطُّره » بقطع الألف وضم الراء ، وكذلك قرأ السبعة حاشا ابن عامر ، فإنه قرأ «فأمْتِعه » بضم الهمزة وسكون الميم وتخفيف التاء ، { ثم أضطره } بقطع الألف ، وقرأ يحيى بن وثاب «فأمتعه » كما قرأ ابن عامر «ثم إضطره » بكسر الهمزة على لغة قريش في قولهم لا إخال ، وقرأ أبي بن كعب «فنمتعه » «ثم نضطره »( {[1249]} ) ، و { من } شرط والجواب في { فأمتعه } ، وموضع { من } رفع على الابتداء والخبر( {[1250]} ) ، ويصح أن يكون موضعها نصباً على تقدير وأرزق من كفر ، فلا تكون شرطاً .
وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هذا القول هو من إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وقرؤوا «فأَمْتعه » بفتح الهمزة وسكون الميم «ثم اضطره » بوصل الألف وفتح الراء ، وقرئت بالكسر ، ويجوز فيها الضم ، وقرأ ابن محيصن «ثم اطّره » بإدغام الضاد في الطاء ، وقرأ يزيد بن أبي حبيب «ثم اضطُره » بضم الطاء .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فكأن إبراهيم عليه السلام دعا للمؤمنين وعلى الكافرين( {[1251]} ) .
و { قليلاً } معناه مدة العمر ، لأن متاع الدنيا قليل ، وهو نعت إما لمصدر كأنه قال : متاعاً قليلاً : وإما لزمان ، كأنه قال : وقتاً قليلاً أو زمناً قليلاً ، و { المصير } مفعل كموضع من صار يصير : و «بيس » أصلها بئس ، وقد تقدمت في «بيسما »( {[1252]} ) ، وأمتعه معناه أخوله الدنيا وأبقيه فيها بقاء قليلاً ، لأنه فان منقض ، وأصل المتاع الزاد ، ثم استعمل فيما يكون آخر أمر الإنسان أو عطائه أو أفعاله ، قال الشاعر [ سليمان بن عبد الملك ] : [ الطويل ]
وَقَفْتُ على قَبْرٍ غريبٍ بقفرةٍ . . . متاع قليل من حبيبٍ مفارقِ( {[1253]} )
ومنه تمتيع الزوجات( {[1254]} ) ، ويضطر الله الكافر إلى النار جزاء على كفره .