التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا} (85)

ثم رغب - سبحانه المؤمنين فى الخير ، وحذرهم من التوسط فى الشر ، فقال : { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا } .

والشفاعة : هى التوسط بالقول فى وصول إنسان إلى منفعة دنيوية أو أخروية ، أو إلى إنقاذه من مضرة . وهى مأخوذة من الشفع وهو الزوج فى العدد ضد الوتر . فكأن المشفوع له كان وترا فجعله الشفيع شفعا .

والنصيب : الحظ من كل شئ . والكفل : الضعف والنصيب والحظ .

قال الجمل : واستعمال الكفل فى الشر أكثر من استعمال الصيب فيه وإن كان كل منهما قد يستعمل فى الخير كما قال - تعالى - { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } ولقلة استعمال النصيب فى الشر وكثرة استعمال الكفيل فيه غاير بينهما فى الآية الكريمة حيث أتى بالكفل مع السيئة وبالنصيب مع الحسنة .

والمعنى : من يشفع شفاعة حسنة ، أى يتوسط فى أمر يترتب عليه خير { يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا } أى : يكن له ثواب هذه الشفاعة الحسنة . { وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً } وهى ما كانت فى غير طريق الخير { يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا } أى : يكن له نصيب من وزرها وإثمها ، لأن سعى فى الفساد ولم يسع فى الخير .

وإطلاق الشفاعة على السعى فى الشر من باب المشاكلة ، لأن الشافعة لا تطلق إلا على الوساط فى الخير .

والآية الكريمة وإن كانت واردة على سبيل التعميم فى بيان جزاء كل شفاعة حسنة أو كل شفاعة سيئة ، إلا أن المقصود بها قصدا أوليا ترغيب المؤمنين فى أن يعاون بعضهم بعضا على الجهاد فى سبيل الله ، وفى انضمام بعضهم إلى بعض من أجل نصرة الحق ، وتهديد المنافقين الذين كان يشفع بعضهم لبعض لكى يأذن لهم النبى صلى الله عليه وسلم فى التخلف عن الجهاد . وقد رجح هذا الاتجاه الإِمام ابن جرير فقال ما ملخصه :

يعنى - سبحانه - بقوله { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا } من يصر يا محمد شفعا لوتر أصحابك ، فيشفعهم فى جهاد عدوهم وقتالهم فى سبيل الله ، وهو الشفاعة الحسنة لم يكن له نصيب منها ، أى يكن له من شفاعته تلك نصيب ، وهو الحظ من ثواب الله وجزيل كرامته . ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على المؤمنين به ، فيقاتلهم وذلك هو الشفاعة السيئة يكن له كفل منها . يعن بالكفل : النصيب والحظ من الوزر والإِثم ، وهو مأخوذ من كفل البعير والمركب ، وهو الكساء أو الشئ يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة . يقال : جاء فلان مكتفلا : إذا جاء على مركب قد وطئ له . . وقد قيل : إن الآية عنى بها شفاعة الناس بعضهم لبعض . وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكر ، ثم عم بذلك كل شافع بخير أو شر .

وإنما اخترنا ما قلنا من القول فى ذلك ؛ لأنه فى سياق الآية التى أمر الله نبيه فيها بحض المؤمنين على القتال . فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوعيد لمن أبى إجابته أشبه منه من الحث على شفاعة الناس بعضهم لبعض التى لم يجر لها ذكر قبل . ولا لها ذكر بعد .

وقوله { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } تذييل قصد به تعريف الناس أنه - سبحانه - سيجازى كل إنسان بعمله ، حتى يكثروا من فعل الخير ويقلعوا عن فعل الشر .

ومقيتا : أى مقتدرا . من أقات على الشئ اقتدر عليه . ومنه قول الزبير ابن عبد المطلب :

وذى ضغن كففت النفس عنه . . . وكنت على مساءته مقيتاً

أى : وكنت على رد إساءته مقتدراً .

أو مقيتا : معناها حفيظا من القوت وهو ما يمسك الرق من الرزق وتحفظ به الحياة : والمعنى : وكان الله تعالى - وما زال على كل شئ مقتدرا لا يعجزه شئ ، وحفيظا على أحوال الناس لا يغيب عنه شئ من ذلك ، وسيجازيهم بما يستحقون من ثواب أو عقاب .

هذا وقد وردت أحاديث متعددة فى الحض على الشفاعة الحسنة ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان عن ابى موسى الأشعرى قال : " " كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال : " اشفعوا تؤجروا ويقضى الله على لسانه نبيه ما أحب " " .

قال صاحب الكشاف : والشفاعة الحسنة هى التى روعى بها حق مسلم ، ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير ، وابتغى بها وجه الله ، ولم تؤخذ عليها رشوة ، وكانت فى أمر جائز ، ولا فى حد من حدود الله ولا فى حق من الحقوق - يعنى الواجبة عليه - والسيئة ما كانت بخلاف ذلك . وعن مسروق : أنه شفع شفاعته . فأهدى إليه المشفوع له جارية . فغضب وردها . وقال : لو علمت ما فى قلبك ما تكلمت فى حاجتك . ولا أتكلم فيما بقى منها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا} (85)

71

وبمناسبة تحريض الرسول [ ص ] للمؤمنين على القتال الذي ورد الأمر به في آخر الدرس ، وذكر المبطئين المثبطين في أوله ، يقرر قاعدة عامة في الشفاعة - وهي تشمل التوجيه والنصح والتعاون :

( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها ، وكان الله على كل شيء مقيتًا ) . .

فالذي يشجع ويحرض ويعاون على القتال في سبيل الله ، يكون له نصيب من أجر هذه الدعوة وآثارها . والذي يبطى ء ويثبط تكون له تبعة فيها وفي آثارها . . وكلمة " كفل " توحي بأنه متكفل بجرائرها .

والمبدأ عام في كل شفاعة خير ، أو شفاعة سوء . وقد ذكر المبدأ العام بمناسبة الملابسة الخاصة ، على طريقة المنهج القرآني ، في إعطاء القاعدة الكلية من خلال الحادثة الجزئية ، وربط الواقعة المفردة بالمبدأ العام كذلك . وربط الأمر كله بالله ، الذي يرزق بكل شيء . أو الذين يمنح القدرة على كل شيء . وهو ما يفسر كلمة " مقيت " في قوله تعالى في التعقيب :

وكان الله على كل شيء مقيتًا .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا} (85)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ مّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لّهُ كِفْلٌ مّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ مّقِيتاً } . .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها } من يَصِرْ يا محمد شفعا لوتر أصحابك ، فيشفعهم في جهاد عدوّهم وقتالهم في سبيل الله¹ وهو الشفاعة الحسنة { يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْها } يقوله : يكن له من شفاعته تلك نصيب ، وهو الحظّ من ثواب الله ، وجزيل كرامته . { وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً } يقول : ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على المؤمنين به ، فيقاتلهم معهم ، وذلك هو الشفاعة السيئة { يَكُنْ له كِفْلٌ مِنْها } يعني : بالكفل النصيب والحظّ من الوزر والإثم . وهو مأخوذ من كِفْل البعير والمركب ، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة ، يقال منه : جاء فلان مكتفلاً : إذا جاء على مركب قد وُطّىءَ له على ما بينا لركوبه . وقد قيل : إنه عنى بقوله : { مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها } . . . الاَية ، شفاعة الناس بعضهم لبعض . وغير مستنكر أن تكون الاَية نزلت فيما ذكرنا ، ثم عمّ بذلك كل شافع بخير أو شرّ .

وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك لأنه في سياق الاَية التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بحضّ المؤمنين على القتال ، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والوعيد لمن أبى إجابته أشبه منه من الحثّ على شفاعة الناس بعضهم لبعض التي لم يجر لها ذكر قبل ولا لها ذكر بعد . ذكر من قال ذلك في شفاعة الناس بعضهم لبعض :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً } قال : شفاعة بعض الناس لبعض .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حُدثت عن ابن مهدي ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن ، قال : من يُشَفّع شفاعة حسنة كان له فيها أجران ، ولأن الله يقول : { مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها } ولم يقل : يُشَفّع .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن ، قال : من يشفع شفاعة حسنة كتب له أجرها ما جرت منفعتها .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سئل ابن زيد ، عن قول الله : { مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها } قال : الشفاعة الصالحة التي يشفع فيها وعمل بها هي بينك وبينه هما فيها شريكان . { مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها } قال : هما شريكان فيها كما كان أهلها شريكين . ذكر من قال ذلك : الكفل النصيب :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها } : أي حظّ منها . { مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها } والكفل : هو الإثم .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها } أما الكفل : فالحظّ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها } قال : حظّ منها ، فبئس الحظّ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الكفل والنصيب واحد . وقرأ : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } .

القول في تأويل قوله تعالى : { وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا } .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا } فقال بعضهم : تأويله : وكان الله على كل شيء حفيظا وشهيدا . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا } يقول : حفيظا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { مُقِيتا } شهيدا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل اسمه مجاهد ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { مُقِيتا } قال : شهيدا ، حسيبا ، حفيظا .

حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثنا أبي ، عن خصيف ، عن مجاهد أبي الحجاج : { وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا } قال : المقيت : الحسيب .

وقال آخرون : معنى ذلك : القائم على كل شيء بالتدبير . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عبد الله بن كثير : { وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا } قال : المقيت : الواصب .

وقال آخرون : هو القدير . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا } أما المقيت : فالقدير .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقِيتا } قال : على كل شيء قديرا . المقيت : القدير .

قال أبو جعفر : والصواب من هذه الأقوال ، قول من قال : معنى المقيت : القدير ، وذلك أن ذلك فيما يذكر كذلك بلغة قريش ، وينشد للزبير بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم :

وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النّفسَ عنْهُ ***وكُنْتُ على مَساءَتِهِ مُقيتا

أي قديرا . وقد قيل : إن منه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كَفَى بالمَرْءِ إثْما أنْ يُضَيّعَ مَنْ يُقِيتُ » في رواية من رواها : «يُقيت » : يعني من هو تحت يديه في سلطانه من أهله وعياله ، فيقدر له قوته . يقال منه : أقات فلان الشيء يقتيه إقاتة ، وقاته يقوته قياتة وقُوتا ، والقوت الاسم . وأما المُقِيتُ في بيت اليهودي الذي يقول فيه :

لَيْتَ شِعْرِي وأشْعُرَنّ إذَا مَا ***قَرّبُوها مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ

ألِيَ الفَضْلُ أمْ عَليّ إذَا حُو ***سِبْتُ إنّي على الحِسابِ مُقِيتُ

فإن معناه : فإني على الحساب موقوف ، وهو من غير هذا المعنى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا} (85)

وقوله تعالى : { من يشفع شفاعة حسنة } الآية . اصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع ، وهو الزوج في العدد ، لأن الشافع ثان لوتر المذنب ، والشفيع ثان لوتر المشتري{[4172]} .

واختلف في هذه الآية المتأولون ، فقال الطبري : المعنى من يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين ، أو من يشفع وتر الكفر وغيرهم : هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم ، فمن يشفع لينفع فله نصيب ، ومن يشفع ليضر فله كفل ، وقال الحسن وغيره : «الشفاعة الحسنة » هي في البر والطاعة ، والسيئة هي في المعاصي ، وهذا كله قريب بعضه من بعض ، «والكفل » النصيب ، ويستعمل في النصيب من الخير ومن الشر ، وفي كتاب الله تعالى { يؤتكم كفلين من رحمته }{[4173]} و { مقيتاً } معناه قديراً ، ومنه قول الشاعر ، وهو الزبير بن عبد المطلب : [ الوافر ]

وَذِي ضَغنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ *** وَكُنْتُ عَلَى إذَابَتِهِ مُقيتا{[4174]}

أي قديراً ، وعبر عنه ابن عباس ومجاهد ، بحفيظ وشهيد ، وعبد الله بن كثير ، بأنه الواصب القيم بالأمور ، وهذا كله يتقارب ، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقيت »{[4175]} على من رواها هكذا أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره ، وذهب مقاتل بن حيان ، إلى أنه الذي يقوت كل حيوان ، وهذا على أن يقال أقات بمعنى قات ، وعلى هذا يجيء قوله عليه السلام «من يقيت » من أقات وقد حكى الكسائي «أقات » يقيت ، فأما قول الشاعر [ السموأل بن عادياء ] : [ الخفيف ]

ليث شعري وأشعرَنَّ إذا ما *** قَرَّبُوها مَطْوِيَّةً وَدُعِيتُ

أإلى الفضل أم عليّ ؟ إذا حُو *** سِبْتُ ، إنّي على الحِسَابِ مُقِيتُ{[4176]}

فقال فيه الطبري : إنه من غير هذا المعنى المتقدم ، وإنه بمعنى موقوت .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا يضعفه أن يكون بناء فاعل بمعنى بناء مفعول .


[4172]:- والشفع: ضم واحد إلى واحد، والشُّفعة: ضم ملك الشريك إلى ملكك، والشفاعة إذا ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك.
[4173]:- من الآية (28) من سورة (الحديد). والكفل: مستعار من "كفل البعير"، وهو كساء يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط، يقال: اكتفلت البعير إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه، وذلك لأنك لم تستعمل الظهر كله، بل استعملت نصيبا منه.
[4174]:- ويروى: "على إذايته". وروى أبو بكر الأنباري في الوقف والابتداء، والطبراني في الكبير أن ابن عباس قال لنافع بن الأزرق: هو من قول أحيحة الأنصاري.
[4175]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه عن ابن عمر. وفي رواية: "من يقوت".
[4176]:- الشاعر هو السموأل بن عادياء، وقبل هذين البيتين يقول: ربّ شتم سمعته وتصاممـ ـت، وعيّ تركته فكُفيت. وقد جاء في (اللسان): "حكى ابن بري عن أبي سعيد السيرافي قال: الصحيح رواية من روى: "ربي على الحساب مقيت"، قال: لأن الخاضع لربه لا يصف نفسه بهذه الصفة، قال ابن بري: الذي حمل السيرافي على تصحيح هذه الرواية أنه بنى على أن (مقيتا) بمعنى: مقتدر، ولو ذهب مذهب من يقول: إنه الحافظ للشيء، والشاهد له كما ذكر الجوهري- لم ينكر الرواية الأولى". أي الرواية التي نقلها هنا ابن عطية: "إني على الحساب مُقيت".