ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر لطفه ورحمته بالناس ، وما جبلوا عليه من صفات وطبائع فقال - تعالى - :
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر . . . } .
قال صاحب المنار : " هاتان الآيتان في بيان شأن من شئون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم في حياتهم الدنيا من خير وشر ، ونفع وضر ، وشعورهم بالحاجة إلى الله - تعالى - واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها ، واستعجالهم الأمور قبل أوانها وهو تعريض بالمشركين ، وحجة على ما يأتون من شرك وما ينكرون من أمر البعث ، متمم لما قبله ، ولذلك عطف عليه .
وقوله : { يعجل } من التعجيل بمعنى طلب الشيء قبل وقته المحدد له والاستعجال : طلب التعجيل بالشيء .
والأجل : الوقت المحدد لانقضاء المدة . وأجل الإِنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره .
والمراد بالناس هنا - عند عدد من المفسرين - : المشركون الذي وصفهم الله - تعالى - قبل ذلك بأنهم لا يرجون لقاءه ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها .
ولقد حكى القرآن في كثير من آياته ، أن المشركين قد استعجلوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نزول العذاب ، ومن ذلك قوله - تعالى - { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ . يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } وقوله - تعالى - : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } والمعنى : ولو يعجل الله - تعالى - لهؤلاء المشركين العقوبة التي طلبوها ، تعجيلا مثل استعجالهم الحصول على الخير { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي : لأميتوا وأهلكوا جميعاً ، ولكن الله - تعالى - الرحيم بخلقه ، الحكيم في أفعاله ، لا يعجل لهم العقوبة اليت طلبوها كما يعجل لهم طلب الخير لحكمة هو يعلمها ؛ فقد يكون من بين هؤلاء المتعجلين للعقوبة من يدخل في الإِسلام ، ويتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قال الإِمام الرازي : " فقد بين - سبحانه - في هذه الآية : أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم ، لأنه - تعالى - " لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا ، ولا صلاح في إماتتهم ، فربما آمنوا بعد ذلك ، وربما خرج من أصلابهم من كان مؤمناً ، وذلك يقتضي أن يعاجلهم بإيصال ذلك الشر " .
ومن العلماء من يرى أن المراد بالناس هنا ما يشمل المشركين وغيرهم ، وأن الآية الكريمة تحكى لونا من ألوان لطف الله بعباده ورحمته بهم .
ومن المفسرين الذين اقتصروا على هذا الاتجاه في تفسيرهم الإِمام ابن كثير ، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : يخبر - تعالى - عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم ، أو أموالهم أو أولادهم بالشر في حال ضجرهم وغضبهم ، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك ، فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة ، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والسخاء ، ولهذا قال : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ .
. . } أي لو استجاب لهم جميع ما دعوه به في ذلك لأهلكهم .
ثم قال : ولكن لا ينبغي الإِكثار من ذلك ، كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم ، لا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم " .
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : هو قول الإِنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه : اللهم لا تبارك فيه والعنة ، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم .
أما الإِمام الآلوسى فقد حكى هذين الوجهين ، ورجح الأول منهما فقال : " قوله : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر . . . } وهم الذين لا يرجون لقاء الله - تعالى - المذكورون في قوله { الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا . . . } والمراد لو يعجل الله لهم الشر الذي كانوا يستعجلون به تكذيبا واستهزاء . . . " وأخرج ابن جرير عن قتادة : أنه قال : " هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره ، أن يستجاب له ، وفيه حمل الناس على العموم ، والمختار الأول ، ويؤيده ما قيل : من أن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } والذى يبدو لنا أن كون لفظ الناس للجنس أولى ، ويدخل فيه المشركون دخولا أوليا ، لأنه لا توجد قرينة تمنع من إرادة ذلك ، وحتى لو صح ما قيل أن الآية نزلت في النضر بن الحارث ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وقوله { استعجالهم بالخير } منصوب على المصدرية ، والأصل : ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير ، فحذف تعجيلا وصفته المضافة ، وأقيم المضاف إليه مقامها .
ثم بين - سبحانه - ما يشير إلى الحكمة في عدم تعجيل العقوبة فقال : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
والطغيان : مجاوزة الحد في كل شيء ، ومنه طغى الماء إذا ارتفع وتجاوز حده .
ويعمهون : من العمه ، يقال : عمه - كفرح ومنع - عمها ، إذا تحير وتردد فهو عمه وعامه .
أي : لا نعجل للناس ما طلبوه من عقوبات ، وإنما نترك الذين لا يرجون لقاءنا إلى يوم القيامة ، على سبيل الإِمهال والاستدراج في الدنيا في طغيانهم يتحيرون ويترددون ، بحيث تلتبس عليهم الأمور فلا يعرفون الخير من الشر .
بعد ذلك يواجه السياق القرآني تحديهم لرسول اللّه [ ص ] وطلبهم تعجيل العذاب الذي يتوعدهم به ؛ ببيان أن تأجيله إلى أجل مسمى هو حكمة من اللّه ورحمة . ويرسم لهم مشهدهم حين يصيبهم الضر فعلا ، فتتعرى فطرتهم من الركام وتتجه إلى خالقها . فإذا ارتفع الضر عاد المسرفون إلى ما كانوا فيه من غفلة . ويذكرهم مصارع الغابرين الذين استخلفوا هم من بعدهم ؛ ويلوح لهم بمثل هذا المصير ؛ ويبين لهم أن الحياة الدنيا إنما هي للابتلاء وبعدها الجزاء . .
( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ، فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون . وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ، كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون . ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ، وجاءتهم رسلهم بالبينات ، وما كانوا ليؤمنوا ، كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ، لننظر كيف تعملون ) .
ولقد كان المشركون العرب يتحدون رسول الله [ ص ] أن يعجل لهم العذاب . . ومما حكاه الله تعالى عنهم في هذه السورة : ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) . وورد في غيرها : ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات )كما حكى القرآن الكريم قولهم : ( وإذ قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) . .
وكل هذا يصور حالة العناد التي كانوا يواجهون بها هدى الله . . وقد شاءت حكمته أن يؤجلهم ، فلا يوقع بهم عذاب الاستئصال والهلاك كما أوقعهم بالمكذبين قبلهم . فقد علم الله أن كثرتهم ستدخل في هذا الدين ، فيقوم عليها ، وينطلق في الأرض بها . وكان ذلك بعد فتح مكة ، مما كانوا يجهلونه وهم يتحدون في جهالة !
غير عالمين بما يريده الله بهم من الخير الحقيقي . لا الخير الذي يستعجلونه استعجالهم بالشر !
والله سبحانه يقول لهم في الآية الأولى : إنه لو عجل لهم بالشر الذي يتحدون باستعجاله ، استعجالهم بالخير الذي يطلبونه . . لو استجاب الله لهم في استعجالهم كله لقضى عليهم ، وعجل بأجلهم ! ولكنه يستبقيهم لما أجلهم له . . ثم يحذرهم من هذا الإمهال أن يغفلوا عما وراءه . فالذين لا يرجون لقاءه سيظلون في عمايتهم يتخبطون ، حتى يأتيهم الأجل المرسوم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ أجابة دعائهم في الشّرّ ، وذلك فيما عليهم مضرّة في نفس أو مال اسْتِعْجالَهُمْ بالخَيْرِ يقول : كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوه به . لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ يقول : لهلكوا وعجل لهم الموت ، وهو الأجل . وعني بقوله : لَقُضِيَ لفرغ إليهم من أجلهم وتبدّى لهم ، كما قال أبو ذؤيب :
وَعَلَيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضَاهما *** دَاودُ أوْ صَنَعُ السّوَابِغِ تُبّعُ
فَنَذَرُ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا يقول : فندع الذين لا يخافون عقابنا ولا يوقنون بالبعث ولا بالنشور ، فِي طُغْيانِهِمْ يقول : في تمرّدهم وعتوّهم ، يَعْمَهُونَ يعني يتردّدون . وإنما أخبر جلّ ثناؤه عن هؤلاء الكفرة بالبعث بما أخبر به عنهم من طغيانهم وترددهم فيه عند تعجيله إجابة دعائهم في الشرّ لو استجاب لهم أن ذلك كان يدعوهم إلى التقرّب إلى الوثن الذي يشرك به أحدهم ، أو يضيف ذلك إلى أنه من فعله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالهُمْ بالخَيْرِ قال : قول الإنسان إذا غضب لولده وماله : لا بارك الله فيه ولعنه
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالهُمْ بالخَيْرِ قال : قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه : اللهمّ لا تبارك فيه والعنه فلو يعجل الله الاستجابة لهم في ذلك كما يستجاب في الخير لأهلكهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالهُمْ بالخَيْرِ قال : قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه : اللهمّ لا تبارك فيه والعنه : لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ قال : لأهلك من دعا عليه ولأماته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالهُمْ بالخَيْرِ قال : قول الرجل لولده إذا غضب عليه أو ماله : اللهمّ لا تبارك فيه والعنه قال الله : لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ قال : لأهلك من دعا عليه ولأماته . قال : فَنَذَرُ الّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا قال : يقول : لا نهلك أهل الشرك ، ولكن نذرهم في طغيانهم يعمهون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ للنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالهُمْ بالخَيْرِ قال : هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ قال : لأهلكناهم ، وقرأ : ما تَرَكَ على ظَهْرِها مِنْ دَابّةِ قال : يهلكهم كلهم .
ونصب قوله اسْتِعْجالَهُمْ بوقوع يعجل عليه ، كقول القائل : قمت اليوم قيامك ، بمعنى قمت كقيامك ، وليس بمصدر من يعجل ، لأنه لو كان مصدرا لم يحسن دخول الكاف ، أعني كاف التشبيه فيه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ فقرأ ذلك عامّة قرّاء الحجاز والعراق : لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ على وجه ما لم يسمّ فاعله بضم القاف من «قُضي » ورفع «الأجل » . وقرأ عامة أهل الشأم : «لَقَضَي إلَيْهِمْ أجَلُهُمْ » بمعنى : لقضى الله إليهم أجلهم . وهما قراءتان متفقتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب ، غير أن أقرؤه على وجه ما لم يسمّ فاعله ، لأن عليه أكثر القرّاء .