ثم أمر الله - تعالى - الدائنين أن يصبروا على المدينين الذين لا يجدون ما يؤدون منه ديونهم فقال - تعالى - : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } .
والعسرة : اسم من الإِعسار وهو تعذر الموجود من المال يقال : أعسر الرجل إذا صار إلى حالة العسرة وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال .
والنظرة : اسم من الإِنظار بمعنى الإمهال . يقال : شنظره وانتظره وتنظره ، تأنى عليه وأمهله في الطلب .
والميسرة : مفعلة من اليسر الذي هو ضد الإِعسار . يقال : أيسر الرجل فهو موسر إذا اغتنى وكثر ماله وحسنت حاله .
والمعنى : وإن وجد مدين معسر فأمهلوه في أداء دينه إلى الوقت سالذي يتمكن فيه من سداد ما عليه من ديون ، ولا تكونوا كأهل الجاهلية الذين كان الواحد منهم إذا كان له دين على شخص وحل موعد الدين طالبه بشدة وقال له : إما أن تقضي وإما أن تربي أي تدفع زيادة على أصل الدين .
و ( كان ) هنا الظاهر أنها تامة بمعنى وجد أو حدث ، فتكتفى بفاعلها كسائر الأفعال . وقيل يجوز أن تكون ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود إلى المدين وإن لم يذكر وذلك على قراءة ( ذا عسرة ) بالنصب وقوله : ( فنظرة ) الفاء جواب الشرط . ونظرة خبر لمبتدأ محذوف أي فالأمر أو فالواجب أو مبتدأ محذوف الخبر أي فعليكم نظرة .
ثم حبب - سبحانه - إلى عباده التصدق بكل أو ببعض ما لهم من ديون على المدينين المعسرين فقال - تعالى - : { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
أي : وأن تتركوا للمعسر كل أو بعض ما لكم عليه من ديون وتتصدقوا بها عليه ، فإن فعلكم هذا يكون أكثر ثواباً لكم من الأنظار .
وجواب الشرط في قوله : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } محذوف . أي إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم فلا تتباطؤا في فعله ، بل سارعوا إلى تنفيذه فإن التصدق بالدين على المعسر ثوابه جزيل عند الله - تعالى - .
وقد أورد بعض المفسرين جملة من الأحاديث النبوية التي تحض على إمهال المعسر ، والتجاوز عما عليه من ديون .
ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة " .
وروى الطبراني عن أسعد بن زرارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله فليسير مع معسر أو ليضع عنه " .
وروى الإِمام أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر " .
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىَ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدّقُواْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
يعني جل ثناؤه بذلك : وإن كان ممن تقبضون منه من غرمائكم رءوس أموالكم ذو عسرة ، يعني معسرا برءوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء ، فأنظِروهم إلى ميسرتهم . وقوله : { ذُو عُسْرَةٍ } مرفوع بكان ، فالخبر متروك ، وهو ما ذكرنا ، وإنما صلح ترك خبرها من أجل أن النكرات تضمر لها العرب أخبارها ، ولو وجهت كان في هذا الموضع إلى أنها بمعنى الفعل المتكفي بنفسه التامّ ، لكان وجها صحيحا ، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر . فيكون تأويل الكلام عند ذلك : وإن وجد ذو عسرة من غرمائكم برءوس أموالكم ، فنظرة إلى ميسرة .
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب : «وَإنْ كانَ ذا عُسْرَةٍ » بمعنى : وإن كان الغريم ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة . وذلك وإن كان في العربية جائزا فغير جائزة القراءة به عندنا لخلافه خطوط مصاحف المسلمين .
وأما قوله : { فَنَظْرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } فإنه يعني : فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة ، كما قال : { فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيَامٍ } وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبل ، فأغنى عن تكريره . والميسرة : المفعلة من اليسر ، مثل المرحمة والمشأمة .
ومعنى الكلام : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة ، فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بما ليس لكم ، فيصير من أهل اليسر به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } قال : نزلت في الربا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا هشام ، عن ابن سيرين : أن رجلاً خاصم رجلاً إلى شريح قال : فقضى عليه ، وأمر بحبسه . قال : فقال رجل عند شريح : إنه معسر ، والله يقول في كتابه : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } قال : فقال شريح : إنما ذلك في الربا ، وإن الله قال في كتابه : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إِلى أهْلِها وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالعَدْلِ } ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذّبنا عليه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } قال : ذلك في الربا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن الحسن : أن الربيع بن خُثَيْم كان له على رجل حقّ ، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول : أي فلان إن كنت موسرا فأدّ ، وإن كنت معسرا فإلى ميسرة .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، قال : جاء رجل إلى شريح ، فكلمه ، فجعل يقول : إنه معسر ، إنه معسر ، قال : فظننت أنه يكلمه في محبوس . فقال شريح : إن الربا كان في هذا الحيّ من الأنصار ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } وقال الله عزّ وجلّ : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } فما كان الله عزّ وجلّ يأمرنا بأمر ثم يعذّبنا عليه ، أدّوا الأمانات إلى أهلها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } قال : فنظرة إلى ميسرة برأس ماله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسرَةٍ } إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر ، وليست النظرة في الأمانة ، ولكن يؤدّي الأمانة إلى أهلها .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ } برأس المال ، { إلى مَيْسَرَةٍ } يقول : إلى غنى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } هذا في شأن الربا .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } هذا في شأن الربا ، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون ، فلما أسلم من أسلم منهم ، أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } يعني المطلوب .
حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } قال : الموت .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن محمد بن عليّ ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } قال : هذا في الربا .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم في الرجل يتزوّج إلى الميسرة ، قال : إلى الموت أو إلى فرقة .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } . قال : ذلك في الربا .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسرَةٍ } . قال : يؤخره ولا يزد عليه ، وكان إذا حلّ دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه زاد عليه وأخره .
وحدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } قال : يؤخره ولا يزد عليه .
وقال آخرون : هذه الآية عامة في كل من كان له قبل رجل معسر حق من أيّ وجهة كان ذلك الحق من دين حلال أو ربا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة ، وأن تصدّقوا خير لكم¹ قال : وكذلك كل دين على مسلم ، فلا يحلّ لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه ، وإنما جعل النظرة في الحلال فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك .
حدثني عليّ بن حرب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } قال : نزلت في الدين .
والصواب من القول في قوله : { وَإنْ كانَ دُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } أنه معنيّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهم عليهم ديون قد أربوا فيها في الجاهلية ، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم ، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا ، وبقبض رءوس أموالهم ، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا ، وإنظار من كان منهم معسرا برءوس أموالهم إلى ميسرتهم . فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له ، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قِبَل الربا ، ويلزمه أداء رأس ماله الذي كان أخذ منه ، أو لزمه من قبل الإرباء إليه إن كان موسرا ، وإن كان معسرا كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته ، وكان الفضل على رأس المال مبطلاً عنه . غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا وإياهم عنى بها ، فإن الحكم الذي حكم الله به من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الرّبا عنه حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حلّ عليه ، وهو بقضائه معسر في أنه منظر إلى ميسرته ، لأن دين كل ذي دين في مال غريمه وعلى غريمه قضاؤه منه لا في رقبته ، فإذا عدم ماله ، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع ، وذلك أن مال ربّ الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة : إما أن يكون في رقبة غريمه ، أو في ذمته يقضيه من ماله ، أو في مال له بعينه¹ فإن يكن في مال له بعينه ، فمتى بطل ذلك المال وعدم ، فقد بطل دين ربّ المال ، وذلك ما لا يقوله أحد ويكون في رقبته ، فإن يكن كذلك فمتى عدمت نفسه ، فقد بطل دين ربّ الدين ، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك ، وذلك أيضا لا يقوله أحد ، فقد تبين إذ كان ذلك كذلك أن دين ربّ المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله ، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته ، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدى منه حقّ صاحبه لو كان موجودا ، وإذا لم يكن على رقبته سبيل لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل ، لأنه غير مانعه حقا له إلى قضائه سبيل ، فيعاقب بظلمه إياه بالحبس .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
يعني جلّ وعزّ بذلك : وأن تتصدّقوا برءوس أموالكم على هذا المعسر ، خير لكم أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته لتقبضوا رءوس أموالكم منه إذا أيسر ، { إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } موضع الفضل في الصدقة ، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وأن تصدّقوا برءوس أموالك على الغنيّ والفقير منهم خير لكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ } والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية¹ فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا . { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } . يقول وإن تصدقوا بأصل المال ، خير لكم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد عن قتادة : { وأنْ تَصَدّقُوا } أي برأس المال فهو خير لكم .
وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : من رءوس أموالكم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : أن تصدّقوا برءوس أموالكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : وأن تصدقوا به على المعسر خير لكم¹ نحو ما قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : وأن تصدّقوا برءوس أموالكم على الفقير فهو خير لكم ، فتصدّق به العباس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } يقول : وإن تصدّقت عليه برأس مالك فهو خير لك .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك في قوله : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْر لَكم } يعني على المعسر ، فأما الموسر فلا ، ولكن يؤخذ منه رأس المال ، والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : وأن تصدّقوا برءوس أموالكم خير لكم من نظرة إلى ميسرة ، فاختار الله عزّ وجلّ الصدقة على النّظارة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسرَةٍ ، وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : من النظرة { إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسرَةٍ وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } والنظرة واجبة ، وخير الله عزّ وجلّ الصدقة على النظرة ، والصدقة لكل معسر فأما الموسر فلا .
وأولى التأويلين بالصواب ، تأويل من قال معناه : وأن تصدّقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين ، وإلحاقه بالذي يليه أحبّ إليّ من إلحاقه بالذي بعد منه . وقد قيل : إن هذه الاَيات في أحكام الربا هن آخر آيات نزلت مِن القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب قال : كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا ، وإن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قُبِض قبل أن يفسرها ، فدعوا الربا والريبة .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عامر : أن عمر رضي الله عنه قام ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد : فإنه والله ما أدري ، لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم ، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم وإنه كان من آخر آيات القرآن تنزيلاً آيات الربا ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبنيه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم .
حدثني أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن الأحول ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، قال : آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا ، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعلّ به بأسا ، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس .
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 280 )
حكم الله تعالى لأرباب الربا برؤوس الأموال عند الواجدين للمال ، ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حالة اليسر . قال المهدوي : وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين ، وحكى مكي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام( {[2739]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ ، وإلا فليس بنسخ ، و «العسرة » ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة ، والنظرة : التأخير ، والميسرة مصدر بمعنى اليسر ، وارتفع { ذو عسرة } ب { كان } التامة التي هي بمعنى وجد وحدث . هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما ، ومن هنا يظهر أن الأصل الغنى ووفور الذمة ، وأن العدم طارىء حادث يلزم أن يثبت . وقال بعض الكوفيين ، حكاه الطبري : بل هي { كان } الناقصة والخبر محذوف ، تقديره { وإن كان } من غرمائكم { ذو عسرة } وارتفع قوله : { فنظرة } على خبر ابتداء مقدر ، تقديره فالواجب نظرة ، أو فالحكم نظرة .
قال الطبري : وفي مصحف أبي بن كعب : { وإن كان ذو عسرة } على معنى وإن كان المطلوب ، وقرأ الأعمش «وإن كان معسراً فنظرة » .
قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى : وكذلك في مصحف أبي بن كعب ، قال مكي والنقاش وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ { وإن كان ذو عسرة } بالواو فهي عامة في جميع من عليه دين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير لازم( {[2740]} ) ، وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان ، «فإن كان » بالفاء { ذو عسرة } بالواو ، وقراءة الجماعة نظرة بكسر الظاء ، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن : «فنظْرة » بسكون الظاء ، وكذلك قرأ الضحاك ، وهي على تسكين الظاء من نظرة ، وهي لغة تميمية ، وهم الذين يقولون : كرم زيد بمعنى كرم ، ويقولون ، كبد من كبد ، وكتف في كتف ، وقرأ عطاء بن أبي رباح «فناظرة » على وزن فاعلة ، وقال الزجّاج : هي من أسماء المصادر ، كقوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } [ الواقعة : 2 ] وكقوله تعالى : { تظن أن يفعل بها فاقرة } [ القيامة : 25 ] ، وكخائنة الأعين( {[2741]} ) وغيره ، وقرأ نافع وحده «ميسُرة » بضم السين ، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «ميسَرة » بفتح السين على وزن مفعلة ، وهذه القراءة أكثر في كلام العرب ، لأن مفعلة بضم العين قليل .
قال أبو علي : قد قالوا : مسربة ومشربة( {[2742]} ) ، ولكن مفعلة بفتح العين أكثر في كلامهم ، وقرأ عطاء بن أبي رياح أيضاً ومجاهد : «فناظره إلى ميسُره » على الأمر في «ناظره » وجعلا الهاء ضمير الغريم ، وضما السين من «ميسُره » وكسر الراء وجعلا الهاء ضمير الغريم ، فأما ناظره ففاعله من التأخير ، كما تقول : سامحه( {[2743]} ) ، وأما ميسر فشاذ ، قال سيبويه : ليس في الكلام مفعل ، قال أبو علي يريد في الآحاد ، فأما في الجمع فقد جاء قول عدي بن زيد : [ الرمل ]
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنّي مَأْلُكاً . . . أَنَّه قَدْ طالَ حَبْسي وانتظاري( {[2744]} )
بثين الزمي - لا - إنَّ - لا - إنْ لزمته . . . على كثرةِ الواشين أيّ معون
فالأول جمع مألكه ، والآخر جمع معونة( {[2745]} ) ، وقال ابن جني : إن عدياً أراد مالكة فحذف ، وكذلك جميل أراد أي معونة ، وكذلك قول الآخر : [ الراجز ]
«ليومِ روعٍ أو فِعال مكْرَمِ ( {[2746]} ) » . . . «أرادَ مَكْرُمَة » ، فحذف قال : ويحتمل أن تكون جموعاً كما قال أبو علي .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فإن كان ميسر جمع ميسرة فيجري مجرى هذه الأمثلة ، وإن كان قارئه أراد به الإفراد فذلك شاذ ، وقد خطأه بعض الناس ، وكلام سيبويه يرده ، واختلف أهل العلم : هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة : واقف على أهل الربا أو هو منسحب على كل ذي دين حال ؟
فقال ابن عباس وشريح : ذلك في الربا خاصة ، وأما الديون وسائر الأمانات فليس فيها نظرة ، بل تؤدى إلى أهلها( {[2747]} ) ، وكأن هذا القول( {[2748]} ) يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم الصريح ، فالحكم هي النظرة ضرورة ، وقال جمهور العلماء النظرة إلى الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء كان الديْن ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة ، فسره الضحاك( {[2749]} ) .
وقوله تعالى : { وأن تصدقوا } ابتداء وخبره { خير } ، وندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيراً من إنظاره ، قاله السدي وابن زيد والضحاك وجمهور الناس . وقال الطبري وقال آخرون معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم ، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة أقوالاً لقتادة وإبراهيم النخعي لا يلزم منها ما تضمنته ترجمته ، بل هي كقول جمهور الناس ، وليس في الآية مدخل للغني( {[2750]} ) ، وقرأ جمهور القراء : «تصَّدقوا » بتشديد الصاد على الإدغام من تتصدقوا . وقرأ عاصم «وأن تصْدقوا » بتخفيف الصاد وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وأن تصدقوا » بفك الإدغام .
وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال : كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة . وقال ابن عباس : آخر ما نزل آية الربا( {[2751]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ومعنى هذا عندي أنها من آخر ما نزل( {[2752]} ) ، لأن جمهور الناس وابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وغيرهم ، قال : آخر آية قوله تعالى : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } وقال سعيد بن المسيب : بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين ، وروي أن قوله عز وجل : { واتقوا } نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ، ثم لم ينزل بعدها شيء ، وروي بثلاث ليال ، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات ، وأنه قال عليه السلام اجعلوها بين آية الربا وآية الدين ، وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية ، من البقرة .
عطف على قوله : { فلكم رؤوس أموالكم } لأنّ ظاهر الجواب أنّهم يسترجعونها معجّلة ، إذ العقود قد فسخت . فعطف عليه حالة أخرى ، والمعطوفُ عليه حالة مقدّرة مفهومة لأنّ الجزاء يدل على التسبّب ، والأصل حصول المشروط عند الشرط . والمعنى وإن حصل ذو عسرة ، أي غريم معسر .
وفي الآية حجة على أنّ ( ذُو ) تضاف لغير ما يفيد شيئاً شريفاً .
والنظِرة بكسر الظاء الانتظار .
والميسُرة بضم السين في قراءة نافع وبفتحها في قراءة الباقين اسم لليسر وهو ضدّ العسر بضم العين وهي مَفْعُلة كمَشرُقَة ومَشْرُبَة ومألُكَة ومَقْدُرة ، قال أبو علي ومَفْعَلة بالفتح أكثر في كلامهم .
وجملة فنظرة جواب الشرط ، والخبر محذوف ، أي فنظرة له .
والصيغة طلب ، وهي محتملة للوجوب والندب . فإن أريد بالعسرة العُدْم أي نفاد مالِهِ كلّه فالطلب للوجوب ، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدّين إذا لم يكن له وفاء . وقد قيل : إن ذلك كان حكماً في الجاهلية وهو حكم قديم في الأمم كان من حكم المصريين ، ففي القرآن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } [ يوسف : 76 ] . وكان في شريعة الرومان استرقاق المدين ، وأحسب أن في شريعة التوراة قريباً من هذا ، وروي أنّه كان في صدر الإسلام ، ولم يثبت . وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء فالطلب يحتمل الوجوب ، وقد قال به بعض الفقهاء ، ويحتمل الندب ، وهو قول مالك والجمهور ، فمن لم يشأ لم ينظره ولو ببيع جميع ماله لأنّ هذا حق يمكن استيفاؤه ، والإنظار معروف والمعروف لا يجب . غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع ، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلاّ يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما بِهِ الخلاصُ .
ومورد الآية على ديون معاملات الربا ، لكنّ الجمهور عمّموها في جميع المعاملات ولم يعتبروا خصوص السبب لأنّه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال ديناً بحتاً ، فما عيّن له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كلُه . وخالف شريح فخَصّ الآية بالديون التي كانت على ربا ثم أبطل رباها .
وقوله : { وأن تصدقوا خير لكم } أي أنّ إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل ، وجعله الله صدقة لأنّ فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف .
وقرأ الجمهور من العشرة { تصدقوا } بتشديد الصاد على أنّ أصله تتصدّقوا فقلبت التاء الثانية صاداً لتقاربهما وأدغمت في الصاد ، وقرأه عاصم بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين للتخفيف .