التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

ثم بين - سبحانه - حال طائفة أخرى من الناس ، كانا على النقيض من سابقيهم ، فقال : { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي . . . فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .

قد ذكر المفسرون فى سبب نزول هاتين الآيتين روايات اشهرها ، أنهما نزلتا فى النضر بن الحارث . اشترى قينة - أى مغنية - ، وكان لا يسمع بأحد يريد الإِسلام إلا انطلق به إلى قينته ، فيقول لها : أطعميه واسقيه وغنيه ، فهذا خير مما يدعوك إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الصلاة والصيام ، وأن تقاتل بين يديه .

و { لَهْوَ الحديث } : باطله ، ويطلق على كل كلام يلهى القلب ، ويشغله عن طاعة الله - تعالى - ، كالغناء ، والملاهى ، وما يشبه ذلك مما يصد عن ذكر الله - تعالى - :

وقد فسر كثير من العلماء بالغناء ، والأفضل تفسيره بكل حديث لا يثمر خيرا .

و { مِنَ } فى قوله { وَمِنَ الناس } للتبعيض ، أى : ومن الناس من يترك القول الذى ينفعه ، ويشترى الأحاديث الباطلة ، والخرافات الفاسدة .

قال القرطبى ما ملخصه : هذه إحدى الآيات التى استدل بها العلماء على كارهة الغناء والمنع منه . ولا يختلف فى تحريم الذى يحرك النفوس ، ويبعثها على الغزل والمجون . . فأما ما سلم من ذلك ، فيجوز القليل منه فى أوقات الفرح ، كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة ، كما كان فى حفر الخندق . .

وقوله : { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } تعليل لاشتراء لهو الحديث . والمراد بسبيل الله - تعالى - : دينه وطريقه الذى اختاره لعباده .

وقد قرأ الجمهور : { ليُضل } بضم الياء - أى : يشرتى لهو الحديث ليضل غيره عن صراط الله المستقيم ، حالة كونه غير عالم بسوء عاقبة ما يفعله ، ولكى يتخذ آيات الله - تعالى - مادة لسخريته واستهزائه .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { ليَضل } - بفتح الياء - فيكون المعنى : يشترى لهو الحديث ليزداد رسوخا فى ضلاله .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : القراءة بالضمر بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو ، أن يصد الناس عن الدخول فى الإِسلام واستماع القرآن ، ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح ؟ .

قلت : فيه معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذى كان عليه ، ولا يصدف عنه ، ويزيد فيه ويمده فإن المخذوف كان شتديد الشكيمة فى عداوة الدين وصد الناس عنه . والثانى : أن بوضع ليضَل موضع ليضُل ، من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف . .

وقوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } بيان لسوء عاقبة من يؤثر الضلالة على الهداية .

أى : أولئك الذين يشترون لهو الحديث ، ليصرفوا الناس عند دين الله - تعالى - ، وليستهزئوا بآياته ، لهم عذاب يهينهم ويذلهم ، ويجعلهم محل الاحتقار والهوان .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتّخِذَهَا هُزُواً أُوْلََئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ } .

اختلف أهل التأويل ، في تأويل قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيث فقال بعضهم : من يشتري الشراء المعروف بالثمن ، ورووا بذلك خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن خلاد الصفَار ، عن عبيد الله بن زَحْر ، عن عليّ بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أُمامة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يَحِلّ بَيْعُ المُغَنّياتِ ، وَلا شِرَاؤُهُنّ ، وَلا التّجارَةُ فِيهِنّ ، وَلا أثمَانُهُنّ ، وفيهنّ نزلت هذه الاَية : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ » .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن خَلاد الصفَار ، عن عبيد الله بن زَحْر ، عن عليّ بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أُمامة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه ، إلاّ أنه قال : «أكْلُ ثَمَنِهِنّ حَرَامٌ » وقال أيضا : «وفِيهِنّ أنْزَلَ اللّهُ عليّ هَذِهِ الاَيَةَ : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ » .

حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سليمان بن حيان ، عن عمرو بن قيس الكلابي ، عن أبي المهلّب ، عن عبيد الله بن زَحْر ، عن عليّ بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أُمامة . قال : وثنا إسماعيل بن عَياش ، عن مُطَرّح بن يزيد ، عن عبيد الله بن زَحْر ، عن عليّ بن زيد ، عن القاسم ، عن أبي أُمامة الباهلي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لا يحلّ تَعْلِيمُ المُغَنّياتِ ، وَلا بَيْعُهُنّ وَلا شِرَاؤُهُنّ ، وثَمَنُهُنّ حَرامٌ ، وقَدْ نَزَلَ تَصْدِيقُ ذلكَ فِي كِتابِ اللّهِ وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ إلى آخر الاَية » .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : من يختار لهو الحديث ويستحبه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ بغَيْرِ عِلْمٍ والله لعله أن لا ينفق فيه مالاً ، ولكن اشتراؤه استحبابه ، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ ، وما يضرّ على ما ينفع .

حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، قال : حدثنا ابن شوذب ، عن مطر ، في قول الله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : اشتراؤه : استحبابه .

وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من قال : معناه : الشراء ، الذي هو بالثمن ، وذلك أن ذلك هو أظهر معنييه .

فإن قال قائل : وكيف يشتري لهو الحديث ؟ قيل : يشتري ذات لهو الحديث ، أو ذا لهو الحديث ، فيكون مشتريا لهو الحديث .

وأما الحديث ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : هو الغناء والاستماع له . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يزيد بن يونس ، عن أبي صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جُبَير ، عن أبي الصهباء البكري ، أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يُسأل عن هذه الاَية وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ بغَيْرِ عِلْمٍ فقال عبد الله : الغناء ، والذي لا إله إلاّ هو ، يردّدها ثلاث مرّات .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا صفوان بن عيسى ، قال : أخبرنا حميد الخراط ، عن عمار ، عن سعيد بن جُبَير ، عن أبي الصهباء ، أنه سأل ابن مسعود ، عن قول الله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : الغناء .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عليّ بن عابس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : الغِناء .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عمران بن عيينة ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : الغناء وأشباهه .

حدثنا ابن وكيع ، والفضل بن الصباح ، قالا : حدثنا محمد بن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس ، في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : هو الغناء ونحوه .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس ، مثله .

حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الأنماطي ، قال : حدثنا عبيد الله ، قال : حدثنا ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : هو الغناء والاستماع له ، يعني قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ .

حدثنا الحسن بن عبد الرحيم ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا سفيان ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن جابر ، في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : هو الغناء والاستماع له .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم أو مقسم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : شراء المغنية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص والمحاربي ، عن ليث ، عن الحكم ، عن ابن عباس ، قال : الغناء .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ قال : باطل الحديث : هو الغناء ونحوه .

حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن مجاهد وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : الغناء .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرحمن بن مهدي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد أنه قال في هذه الاَية وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : الغناء .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب عن مجاهد قال : الغناء .

قال : ثنا أبي ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : هو الغناء ، وكلّ لعب لهو .

حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الأنماطي ، قال : حدثنا عليّ بن حفص الهمداني ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : الغناء والاستماع له وكل لهو .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : المغني والمغنية بالمال الكثير ، أو استماع إليه ، أو إلى مثله من الباطل .

حدثني يعقوب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن علية ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : هو الغناء أو الغناء منه ، أو الاستماع له .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عثام بن عليّ ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن شعيب بن يسار ، عن عكرمة قال : لَهْوَ الحَدِيثِ : الغناء .

حدثني عبيد بن إسماعيل الهَبّاريّ ، قال : حدثنا عَثّام ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن شعيب بن يسار هكذا قال عكرمة ، عن عبيد مثله .

حدثنا الحسين بن الزبرقان النخعي ، قال : حدثنا أبو أسامة وعبيد الله ، عن أسامة ، عن عكرمة ، في قوله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ قال : الغناء .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أسامة بن زيد ، عن عكرمة ، قال : الغناء .

وقال آخرون : عنى باللهو : الطّبل . ذكر من قال ذلك :

حدثني عباس بن محمد ، قال : حدثنا حجاج الأعور ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : اللهو : الطبل .

وقال آخرون : عنى بلهو الحديث : الشرك . ذكر من قال ذلك :

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ يعني الشرك .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ بغَيْرِ عِلْمٍ ، ويَتّخِذها هُزُوا قال : هؤلاء أهل الكفر ، ألا ترى إلى قوله : وَإذا تُتْلَى عَلَيْهِ آياتُنا وَلّى مُسْتَكْبِرا كأنْ لَمْ يَسْمَعْها ، كأنّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرا فليس هكذا أهل الإسلام ، قال : وناس يقولون : هي فيكم ، وليس كذلك ، قال : وهو الحديث الباطل الذي كانوا يَلْغَون فيه .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : عنى به كلّ ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله ، مما نهى الله عن استماعه أو رسولُه ، لأن الله تعالى عَمّ بقوله لَهْوَ الحَدِيثِ ولم يخصص بعضا دون بعض ، فذلك على عمومه ، حتى يأتي ما يدلّ على خصوصه ، والغناء والشرك من ذلك .

وقوله : لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ يقول : ليصدّ ذلك الذي يشتري من لهم الحديث عن دين الله وطاعته ، وما يقرّب إليه من قراءة قرآن ، وذكر الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس لِيُضِلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ قال : سبيل الله : قراءة القرآن ، وذكر الله إذا ذكره ، وهو رجل من قريش اشترى جارية مغنية .

وقوله : بغَيْرِ عِلْمٍ يقول : فعل ما فعل من اشترائه لهو الحديث ، جهلاً منه بما له في العاقبة عند الله من وزر ذلك وإثمه . وقوله وَيَتّخِذَها هُزُوا اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ، وبعض أهل الكوفة : «وَيَتّخِذُها » رفعا ، عطفا به على قوله : يَشْتَرِي كأن معناه عندهم : ومن الناس من يشتري لهو الحديث ، ويتخذ آيات الله هزوا . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة : وَيَتّخِذَها نصبا عطفا على يضلّ ، بمعنى : ليضلّ عن سبيل الله ، وليتخذَها هُزُوا .

والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء ، فمصيب الصواب في قراءته ، والهاء والألف في قوله : ويَتّخِذَها من ذكر سبيل الله . ذكر من قال ذلك :

21375حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَيَتّخِذَها هُزُوا قال : سبيل الله .

وقال آخرون : بل ذلك من ذِكر آيات الكتاب .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : بِحَسْب المرء من الضلالة ، أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ ، وما يضرّ على ما ينفع .

ويَتّخِذَها هُزُوا يستهزىء بها ويكذّب بها . وهما من أن يكونا من ذكر سبيل الله أشبه عندي لقربهما منها ، وإن كان القول الاَخر غير بعيد من الصواب . واتخاذه ذلك هُزُوا هو استهزاؤه به .

وقوله : أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين وصفنا أنهم يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله ، لهم يوم القيامة عذاب مُذِلّ مخزٍ في نار جهنم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

{ ومن الناس من يشتري لهو الحديث } ما يلهي عما يعني كالأحاديث التي لا أصل لها والأساطير التي لا اعتبار بها والمضاحك وفضول الكلام ، والإضافة بمعنى من وهي تبيينية إن أراد بالحديث المنكر وتبعيضية إن أراد به الأعم منه . وقيل نزلت في النضر بن الحارث اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشا ويقول : إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار والأكاسرة . وقيل كان يشتري القيان ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ومنعه عنه . { ليضل عن سبيل الله } دينه أو قراءة كتابه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بمعنى ليثبت على ضلاله ويزيد فيه . { بغير علم } بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن . { ويتخذها هزوا } ويتخذ السبيل سخرية ، وقد نصبه حمزة والكسائي ويعقوب وحفص عطفا على { ليضل } { أولئك لهم عذاب مهين } لإهانتهم الحق باستئثار الباطل عليه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

عطف على جملة { تلك ءايات الكتاب الحكيم } [ لقمان : 2 ] . والمعنى : أن حال الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين ، وأن من الناس معرضين عنه يؤثرون لهو الحديث ليضلّوا عن سبيل الله الذي يهدي إليه الكتاب . وهذا من مقابلة الثناء على آيات الكتاب الحكيم بضد ذلك في ذم ما يأتي به بعض الناس ، وهذا تخلّص من المقدمة إلى مَدخل للمقصود وهو تفظيع ما يدعو إليه النضر بن الحارث ومشايعوه من اللهو بأخبار الملوك التي لا تكسب صاحبها كمالاً ولا حكمة .

وتقديم المُسند في قوله { من الناس } للتشويق إلى تلقي خبره العجيب . والاشتراء كناية عن العناية بالشيء والاغتباط به وليس هنا استعارة بخلاف قوله { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } في سورة البقرة ( 16 ) ؛ فالاشتراء هنا مستعمل في صريحه وكنايته : فالصريح تشويه لاقتناء النضر بن الحارث قِصص رستم وإسفنديار وبهرام ، والكناية تقبيح للذين التّفوا حوله وتلقّوا أخباره ، أي من الناس من يشغله لهو الحديث والولع به عن الاهتداء بآيات الكتاب الحكيم .

واللهو : ما يُقصد منه تشغيل البال وتقصير طول وقت البطالة دون نفع ، لأنه إذا كانت في ذلك منفعة لم يكن المقصود منه اللهو بل تلك المنفعة . { ولهو الحديث } ما كان من الحديث مراداً للهو فإضافة { لهو } إلى { الحديث } على معنى { مِن } التبعيضية على رأي بعض النحاة ، وبعضهم لا يثبت الإضافة على معنى { من } التبعيضية فيردها إلى معنى اللام .

وتقدم اللهو في قوله { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } في سورة الأنعام ( 32 ) . والأصح في المراد بقوله { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } أنه النضر بن الحارث فإنه كان يسافر في تجارة إلى بلاد فارس فيتلقى أكاذيب الأخبار عن أبطالهم في الحروب المملوءة أكذوبات فيقصّها على قريش في أسمارهم ويقول : إن كان محمد يحدثكم بأحاديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وإسفنديار وبهرام . ومن المفرسين من قال : إن النضر كان يشتري من بلاد فارس كُتب أخبار ملوكهم فيحدث بها قريشاً ، أي بواسطة من يترجمها لهم . ويشمل لفظ { النَّاس } أهل سامره الذين ينصتون لما يقصه عليهم كما يقتضيه قوله تعالى إثره { أولئك لهم عذاب مهين } .

وقيل المراد ب { من يشتري لهو الحديث } من يقتني القينات المغنيات . روى الترمذي عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمان عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا خير في تجارةٍ فيهن وثمنُهن حرام » في مثل ذلك أُنزلت هذه الآية { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله } إلى آخر الآية . قال أبو عيسى : هذا حديث غريب إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة وعلي بن يزيد يضعف في الحديث سمعت محمداً يعني البخاري يقول علي بن يزيد يضعف اهـ .

وقال ابن العربي في « العارضة » : في سبب نزولها قولان : أحدهما أنها نزلت في النضر بن الحارث . الثاني أنها نزلت في رجل من قريش قيل هو ابن خطل اشترى جارية مغنية فشغل الناس بها عن استماع النبي صلى الله عليه وسلم اهـ . وألفاظ الآية أنسب انطباقاً على قصة النضر بن الحارث .

ومعنى { ليضل عن سبيل الله } أنه يفعل ذلك ليلهي قريشاً عن سماع القرآن فإن القرآن سبيل موصل إلى الله تعالى ، أي إلى الدين الذي أراده ، فلم يكن قصده مجرد اللهو بل تجاوزه إلى الصد عن سبيل الله ، وهذا زيادة في تفظيع عمله . وقرأ الجمهور { ليُضل } بضم الياء . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ، أي ليزداد ضلالاً على ضلاله إذ لم يكتف لنفسه بالكفر حتى أخذ يبث ضلاله للناس ، وبذلك يكون مآل القراءتين متحدّ المعنى .

ويتعلق { ليضل عن سبيل الله } بفعل { يشتري } ويتعلق به أيضاً قوله { بغير علم } لأن أصل تعلق المجرورات أن يرجع إلى المتعلَّق المبني عليه الكلام ، فالمعنى : يشتري لهو الحديث بغير علم ، أي عن غير بصيرة في صالح نفسه حيث يستبدل الباطل بالحق . والضمير المنصوب في { يتخذها } عائد إلى { سبيل الله ، } فإن السبيل تؤنث . وقرأ الجمهور { ويتخذُها } بالرفع عطفاً على { يشتري ، } أي يشْغل الناس بلهو الحديث ليصرفهم عن القرآن ويتخذ سبيل الله هزؤاً . وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بالنصب عطفاً على { ليضل ، } أي يلهيهم بلهو الحديث ليضلهم وليتخذ دين الإسلام هزءاً . ومآل المعنى متّحد في القراءتين لأن كلا الأمرين من فعله ومن غرضه . وأما الإضلال فقد رُجح فيه جانب التعليل لأنه العلة الباعثة له على ما يفعل .

والهزؤ : مصدر هَزأ به إذا سخر به كقوله { ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً } [ البقرة : 231 ] ولما كان { من يشتري لهو الحديث } صادقاً على النضر بن الحارث والذين يستمعون إلى قصصه من المشركين جيء في وعيدهم بصيغة الجمع { أولئك لهم عذاب مهين } .

واختير اسم الإشارة للتنبيه على أن ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر إنما استحقه لأجل ما سبق اسمَ الإشارة من الوصف .

وجملة { أولئك لهم عذاب مهين } معترضة بين الجملتين جملة { من يشتري } وجملة { وإذا تتلى عليه آياتنا } فهذا عطف على جملة { يشتري } الخ . والتقدير : ومن الناس من يشتري الخ و { إذا تتلى عليه ءاياتنا ولى مستكبراً } ؛ فالموصول واحد وله صلتان : اشتراء لهو الحديث للضلال ، والاستكبار عندما تتلى عليه آيات القرآن .