ثم كرر - سبحانه - التحذير من الحساب يوم القيامة وما يقع فيه من أهوال ورغب المؤمنين في العمل الصالح فقال : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } .
قال الآلوسى : الأمد : غاية الشيء ومنتهاه والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة والأمد مدة لها حد مجهول ، والمراد هنا الغاية الطويلة ، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة ، ولعله الأظهر ، فالتمني هنا من قبيل التمني فى قوله - تعالى - { يا ليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } والمعنى : راقبوا ربكم أيها المؤمنون . وتزودوا من العلم الصالح واذكروا { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } في الدنيا
{ مِنْ خَيْرٍ } وإن كان مثقال ذرة { مُّحْضَراً } لديها مشاهدا في الصحف ، حتى لكأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأي العين { وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء } تراه أيضاً ظاهراً ثابتا مسجلا عليها ، وتتمنى لو أن بينها وبين هذا العمل السيء زمنا طويلا ، ومسافة بعيدة وذلك لأن الإنسان يتمنى دائما أن يكون بيعدا بعدا شاسعاً عن الشيء المخيف المؤلم خصوصاً فى هذا اليوم العصيب وهو يوم القيامة .
وقوله { يَوْمَ } متعلق بمحذوف تقديره اذكروا ، وهو مفعول به لهذا المحذوف . و " تجد " يجوز أن يكون متعديا لواحد فيكون بمعنى تصيب وتصادف ، ويكون " محضراً " على هذا منصوبا على الحال . قال الجمل : وهذا هو الظاهر . ويجوز أن يكون بمعنى تعلم فيتعدى لاثنين أولهما { مَّا عَمِلَتْ } والثانى { مُّحْضَراً } .
وقوله { وَمَا عَمِلَتْ مِن سوء } معطوف على قوله { مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ } .
ويرى بعضهم أن " ما " فى قوله { وَمَا عَمِلَتْ مِن سوء } متبدأ ، وخبرها جملة { لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } فيكون المعنى : ما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمدا بعيدا .
أتى - سبحانه - بقوله { مُّحْضَراً } فى جانب الخير فقط من أن عمل السوء أيضاً يكون محضراً للإشعار يكون عمل الخير هو المراد بالذات . وهو الذى يتمناه الإنسان ويرجو حضوره فى هذا لما يترتب عليه من ثواب وأما عمل الشر فتتمنى كل نفس اقترفته لو بعد عنها ولم تره بسبب ما يترتب عليه من عقاب .
وقوله - سبحانه - { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } تكرير للتحذير الأول الذي جاء فى قوله - تعالى - { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } والسر في هذا التكرير زيادة التحذير من عقاب الله وانتقامه ، فإن تكرار التحذير من شأنه أن يغرس في القلوب التذكر والاعتبار والوجل .
وقيل : إن التحذير الأول ذكر للنهي عن موالاة الكافرين . والذى هنا ذكر للحث على عمل الخير والتنفير من عمل الشر .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله رَؤُوفُ بالعباد } ومن مظاهر رأفته ورحمته أنه حذر عباده قبل أن يعاقبهم ، وأنه يعفو عن كثير من ذنوب عباده ، وأنه فتح لهم باب التوبة حتى يقلعوا عن خطاياهم إلى غير ذلك من مظاهر رأفته ورحمته .
{ يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ويحذّركم الله نفسه ، في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا موفرا ، وما عملت من سوء { تودّ لو أنّ بَيْنَها وبَيْنَهُ أَمَدا بَعِيدا } : يعني : غاية بعيدة ، فإن مصيركم أيها القوم يومئذٍ إليه ، فاحذوره على أنفسكم من ذنوبكم . وكان قتادة يقول في معنى قوله : { مُحْضَرا } ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرا } يقول موفّرا .
وقد زعم أهل العربية أن معنى ذلك : واذكر يوم تجد ، وقال : إن ذلك إنما جاء كذلك ، لأن القرآن إنما نزل للأمر والذكر ، كأنه قيل لهم : اذكروا كذا وكذا ، لأنه في القرآن في غير موضع ، واتقوا يوم كذا وحين كذا . وأما «ما » التي مع عملت فبمعنى الذي ، ولا يجوز أن تكون جزاء لوقوع «تجد » عليه .
وأما قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ } فإنه معطوف على قوله : «ما » الأولى ، و«عملت » صلة بمعنى الرفع ، لمّا قيل «تود » . فتأويل الكلام : يوم تجد كل نفس الذي عملت من خير محضرا ، والذي عملت من سوء ، تودّ لو أن بينها وبينه أمدا . والأمد : الغاية التي ينتهي إليها ، ومنه قول الطرماح :
كلّ حَيّ مُسْتَكْمِلٌ عِدّةَ العُمْ *** رِ ومُودٍ إذَا انْقَضَى أمَدُهْ
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أمَدا بَعِيدا } مكانا بعيدا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { أمَدا بَعِيدا } قال : أجلاً .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أمَدا بَعِيدا } قال : يسرّ أحدهم أن لا يلقى عمله ذاك أبدا يكون ذلك مناه ، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذّها .
القول في تأويل قوله تعالى : { ويُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ } .
يقول جلّ ثناؤه : ويحذّركم الله نفسه أن تسخطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم ، فتوافونه ، يوم تجد كل نفسه ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها وبينه أمدا بعيدا ، وهو عليكم ساخط ، فينالكم من أليم عقابه ما لا قبل لكم به . ثم أخبر عزّ وجلّ أنه رءوف بعباده رحيم بهم ، ومن رأفته بهم تحذيره إياهم نفسه ، وتخويفهم عقوبته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن عمرو بن الحسن في قوله : { وَيُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالعِبادِ } قال : من رأفته بهم أن حذّرهم نفسه .
{ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } { يوم } منصوب بتود أي تتمنى كل نفس يوم تجد صحائف أعمالها ، أو جزاء أعمالها من الخير والشر حاضرة لو أن بينها وبين ذلك اليوم ، وهو له أمدا بعيدا ، أو بمضمر نحو اذكر ، و{ تود } حال من الضمير في عملت أو خبر لما عملت من سوء وتجد مقصور على { ما عملت من خير } ، ولا تكون { ما } شرطية لارتفاع { تود } . وقرئ " ودت " وعلى هذا يصح أن تكون شرطية ولكن الحمل على الخبر أوقع معنى لأنه حكاية كائن وأوفق للقراءة المشهورة . { ويحذركم الله نفسه } كرره للتأكيد والتذكير . { والله رؤوف بالعباد } إشارة إلى أنه تعالى إنما نهاهم وحذرهم رأفة بهم ومراعاة لصلاحهم ، أو أنه لذو مغفرة وذو عقاب أليم فترجى رحمته ويخشى عذابه .
و{ يوم } نصب على الظرف ، وقد اختلف في العامل فيه ، فقال مكي بن أبي طالب ، العامل فيه { قدير } ، وقال الطبري : العامل فيه قوله : { وإلى الله المصير } [ آل عمران : 28 ] وقال الزجّاج ، وقال أيضاً العامل فيه { ويحذركم الله نفسه } [ آل عمران : 28 ] يوم ورجحه وقال مكي : حكاية العامل فيه فعل مضمر تقديره ، «اذكر يوم » ، و { ما } بمعنى الذي و{ محضراً } قال قتادة : معناه موفراً ، وهذا تفسير بالمعنى ، والحضور أبين من أن يفسر بلفظ آخر ، وقوله تعالى : { ما عملت من سوء } يحتمل أن تكون { ما } معطوفة على { ما } الأولى فهي في موضع نصب وتكون { تود } في موضع الحال ، وإلى هذا العطف ذهب الطبري وغيره ، ويحتمل أن تكون رفعاً بالابتداء ويكون الخبر في قوله : { تود } وما بعده كأنه قال : وعملها السيىء مردود عندها أن بينها وبينه أمداً ، وفي قراءة ابن مسعود «من سوء ودت » وكذلك قرأ ابن أبي عبلة ، ويجوز على هذه القراءة أن تكون { ما } شرطية ولا يجوز ذلك على قراءة «تود » لأن الفعل مستقبل مرفوع والشرط يقتضي جزمه اللهم إلى أن يقدر في الكلام محذوف «فهي تود » وفي ذلك ضعف ، و «الأمد » الغاية المحدودة من المكان أو الزمان ، قال النابغة : [ البسيط ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** سَبْق الْجَوادِ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الأمَدِ{[3089]}
فهذه غاية في المكان ، وقال الطرماح{[3090]} : [ الخفيف ]
كُلُّ حيّ مُسْتَكْمِلٌ عُدَّةَ الْعُمْ . . . رِ وَمُودٍ إذا انقضَى أَمَدُهْ
فهذه غاية في الزمان ، وقال الحسن في تفسير هذه الآية ، يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً ذلك مناه ، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئته يستلذها ، وقوله : { والله رؤوف بالعباد } يحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير لأن تحذيره وتنبيهه على النجاة رأفة منه بعباده ، ويحتمل أن يكون ابتداء إعلام بهذه الصفة فمقتضى ذلك التأنيس لئلا يفرط الوعيد على نفس مؤمن ، وتجيء الآية على نحو قوله تعالى : { إن ربك لشديد العقاب ، وإنه لغفور رحيم }{[3091]} لأن قوله : { ويحذركم الله نفسه } [ آل عمران : 28 ] والله محذور العقاب .