ثم قال - تعالى - : { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } .
يكاد من الأفعال التي تدخل على اسم يسند إليه فعل بعده نحو { البرق يَخْطَفُ } . فتدل على أن المسند إليه وهو البرق قد قارب أن يقع منه الفعل وهو خطف الأبصار .
والخطف : الأخذ بسرعة . والأبصار : جمع بصر ، وهو قوة مودعة في العين يدرك بها الألوان والأشكال . والمعنى : أن البرق لشدة لمعانه يقرب من أن يخطف أبصارها ، وهو تصوير بليغ الشدة ذلك البرق ، وترك بيان شدة الرعد اكتفاء بما ذكره في جانب البرق ، ولم يذكر توقيهم للأعين بوضع شيء عليها اكتفاء بما ذكره في توقي الآذان أو لأنهم شغلوا بالآذان عن الأعين .
وقوله - تعالى - : { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } وصف رائع لما يصنعه أهل الصيب في حالتي ظهور البرق واختفائه .
وكل ظرف ، وما مصدرية ولا تصالها بكل أفادت الشرط والعامل فيها هو جوابها وهو { مَّشَوْاْ } و { أَضَآءَ } و { أَظْلَمَ } من الإِظلام وهو اختفاء النور . { قَامُواْ } أي وقفوا وثبتوا في مكانهم . من قام الماء إذا جمد . ويقال : قامت الدابة إذا وقفت .
والمعنى : أنهم إذا صادفوا من البرق وميضاً انتهزوا ذلك الوميض فرصة ، فخطوا خطوات يسيرة ، وإذا خفى لمعانه وقفوا في مكانهم ، فالجملة الكريمة تدل على فرط حرصهم على النجاة من شدة ما هم فيه من أهوال .
ثم قال - تعالى - : { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } .
لو : أداة شرط ، وشاء بمعنى أراد . أي : لو أراد الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لزاد في قصف الرعد فأصمهم ، وفي ضوء البرق فاعماهم . أو يقال : إن قصف الرعد ولمعان البرق المذكورين في المثل سببان كافيان لأن يذهبا بسمع ذوي الصيب وأبصارهم لو شاء الله ذلك . فيكون قوله تعالى { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ } ، إشعاراً بأن تأثير الأسباب في مسبباتها إنما هو بإرادته - تعالى - . وخص السمع والبصر بالذهاب مع أنها من جملة مشاعرهم ، لأهميتها . ولأنها هي التي سبق ذكرها ، أو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى ، لأنه إذا كان قادراً على إذهاب ما حافظوا عليه ، كان قادراً على غيره من باب أولى .
ثم ختم الآية بقوله - تعالى - { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
الشيء في أصل اللغة كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، ويحمل في هذه الآية على الممكن خاصة موجوداً كأن أو معدوماً ، لأن القدرة إنما تتعلق بالممكنات دون الواجب والمستحيل .
والقدير : الفعال لما يريد ، يقال : قدره على الشيء أقدره قدرة وقدراً .
وهذه الجملة الكريمة بمنزلة الاستدلال على ما تضمنته الجملة السابقة من أن الله تعالى قادر على أن يذهب بأسماع أصحاب الصيب وأبصارهم متى شاء .
وتطبيق هذا المثل على المنافقين يقال فيه : إن أصحاب الصيب لضعفهم وخورهم لا يطيقون سماع الرعد الهاثل ، ولا يستطيعون فتح أعينهم في البرق اللامع ، فيجعلون أصابعهم في آذانهم فزعاً من قصف الرعد ، وخوفاً من صواعق تجلجل فوق رءوسهم فتدعهم حصيداً خامدين ، وكذلك حال هؤلاء المنافقين فإنهم لضعف بصائرهم ، وانطماس عقولهم ، تشتد عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه ، فتشمئز قلوبهم ويصرفون عنه أسماعهم خشية أن تتلى عليهم آيات تقع على أسماعهم وقع الصواعق المهلكة . قال ابن كثير : " وذهب ابن جرير ومن تبعه من المفسرين إلى أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين ، وتكون " أو " في قوله تعالى { أَوْ كَصَيِّبٍ } بمعنى الواو ، كقوله تعالى { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } أو تكون للتخيير ، أي ، اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا ، أو للتساوى مثل : جالس الحسن أو ابن سيرين . قلت : وهذا يكون باعتبار أجناس المنافقين ، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة بقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي } { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله } { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } الخ . فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
قال أبو جعفر : وإنما خص جل ذكره السمع والأبصار بأنه لو شاء أذهبها من المنافقين دون سائر أعضاء أجسامهم للذي جرى من ذكرها في الاَيتين ، أعني قوله : يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ وقوله : يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصَارَهُمْ كُلّما أضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ فجرى ذكرها في الاَيتين على وجه المثل . ثم عقب جل ثناؤه ذكر ذلك بأنه لو شاء أذهبه من المنافقين عقوبة لهم على نفاقهم وكفرهم ، وعيدا من الله لهم ، كما توعدهم في الآية التي قبلها بقوله : وَاللّهُ مُحِيطٌ بالكافرِينَ واصفا بذلك جل ذكره نفسه أنه المقتدر عليهم وعلى جمعهم ، لإحلال سخطه بهم ، وإنزال نقمته عليهم ، ومحذرهم بذلك سطوته ، ومخوّفهم به عقوبته ، ليتقوا بأسه ، ويسارعوا إليه بالتوبة . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهمْ وأبْصَارِهِمْ لما تركوا من الحق بعد معرفته .
وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ثم قال يعني قال الله في أسماعهم يعني أسماع المنافقين وأبصارهم التي عاشوا بها في الناس : وَلَوْ شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ .
قال أبو جعفر : وإنما معنى قوله : لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ لأذهب سمعهم وأبصارهم ، ولكن العرب إذا أدخلوا الباء في مثل ذلك قالوا : ذهبت ببصره ، وإذا حذفوا الباء قالوا : أذهبت بصره ، كما قال جل ثناؤه : آتنا غَدَاءَنَا ولو أدخلت الباء في الغداء لقيل : ائتنا بغدائنا .
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وكيف قيل : لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ فوحد ، وقال : وأبْصَارِهِمْ فجمع ؟ وقد علمت أن الخبر في السمع خبر عن سمع جماعة ، كما الخبر في الأبصار خبر عن أبصار جماعة ؟ قيل : قد اختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي الكوفي : وحد لسمع لأنه عنى به المصدر وقصد به الخرق ، وجمع الأبصار لأنه عنى به الأعين . وكان بعض نحويي البصرة يزعم أن السمع وإن كان في لفظ واحد فإنه بمعنى جماعة ، ويحتجّ في ذلك بقول الله : لا يَرْتَدّ إلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يريد لا ترتد إليهم أطرافهم ، وبقوله : وَيُوَلونَ الدّبُرَ يراد به أدبارهم . وإنما جاز ذلك عندي لأن في الكلام ما يدلّ على أنه مراد به الجمع ، فكان فيه دلالة على المراد منه ، وأداء معنى الواحد من السمع عن معنى جماعة مغنيا عن جِماعِهِ ، ولو فعل بالبصر نظير الذي فعل بالسمع ، أو فعل بالسمع نظير الذي فعل بالأبصار من الجمع والتوحيد ، كان فصيحا صحيحا لما ذكرنا من العلة كما قال الشاعر :
كُلُوا في بَعْضِ بَطْنكُمْو تَعِفّوا *** فإنّ زَمانَنا زَمَنٌ خَمِيصُ
فوحد البطن ، والمراد منه البطون لما وصفنا من العلة .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِير .
قال أبو جعفر : وإنما وصف الله نفسه جل ذكره بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع ، لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير ، ثم قال : فاتقوني أيها المنافقون واحذروا خداعي وخداع رسولي وأهل الإيمان بي لا أحل بكم نقمتي فإني على ذلك وعلى غيره من الأشياء قدير . ومعنى قدير : قادر ، كما معنى عليم : عالم ، على ما وصفت فيما تقدم من نظائره من زيادة معنى فعيل على فاعل في المدح والذم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.