التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد

1- سورة الفتح من السور المدنية ، وعدد آياتها تسع وعشرون آية ، وكان نزولها في أعقاب صلح الحديبية .

قال ابن كثير –رحمه الله- : نزلت سورة " الفتح " لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة . . . ( {[1]} ) .

2- والمتدبر للقرآن الكريم ، يرى كثيرا من آياته وسوره ، في أعقاب بعض الغزوات ، ليتعلم المسلمون من تلك الآيات والسور ما ينفعهم وما يصلح من شأنهم .

فمثلا في أعقاب غزوة " بدر " نزلت سورة الأنفال التي سماها ابن عباس سورة بدر .

وفي أعقاب غزوة " أحد " نزلت عشرات الآيات في سورة آل عمران .

وفي أعقاب غزوة " بني النضير " نزلت آيات من سورة الحشر .

وفي أعقاب غزوة " الأحزاب " نزلت آيات من سورة الأحزاب .

وفي أعقاب صلح الحديبية نزلت هذه السورة الكريمة ، التي تحكي الكثير من الأحداث التي تتعلق بهذا الصلح .

3- وقبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة ، نرى من الخير أن نعطي للقارئ فكرة واضحة عن صلح الحديبية ، التي نزلت في أعقابه هذه السورة . . فنقول –وبالله التوفيق- :

رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه قد دخل المسجد الحرام هو وأصحابه ، وقد صرحت السورة الكريمة بذلك في قوله –تعالى- : [ لقد صدق الله رسول الرؤيا بالحق ، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون . . . ] فقص صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا بها . وكان المشركون قد منعوهم من دخول مكة ، ومن الطواف بالمسجد الحرام .

4- وخرج صلى الله عليه وسلم ومعه حوالي أربعمائة وألف من أصحابه ، ليس معهم من السلاح سوى السيوف في أغمادها ، وساقوا معهم الهدى الذي يتقربون بذبحه إلى الله –تعالى- ليكون دليلا على أنهم لا يريدون حرب قريش ، وإنما يريدون الطواف بالبيت الحرام .

وسار صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فلما وصل إلى " عُسْفَان " وهو مكان بين مكة والمدينة –جاءه بشر بن سفيان العكبي وكان مكلفا من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم لمعرفة أخبار قريش فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العُوذُ المطَافِيلُ –أي : ومعهم الإبل التي لم تلد ، والإبل التي ولدت ، قد لبسوا جلود النمور –أي : قد استعدوا لقتالك وقد نزلوا بِذِي طَوىً –وهو مكان بالقرب من مكة- ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا . .

فقال صلى الله عليه وسلم : " يا ويح قريش ! ! لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله عليهم ، دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به ، حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة " أي أو أن أقتل في سبيل الله .

ثم قال صلى الله عليه وسلم : " مَن رجلُ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها " ؟ .

فقال رجل من قبيلة أسلم : أنا يا رسول الله ، فسلك بهم طريقا وعرا ، انتهى يهم إلى " الحديبية " وهي قرية على بعد مرحلة من مكة ، أو هي بئر سمى المكان بها .

5- وفي هذا المكان بركت القصواء –وهي الناقة التي كان يركبها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الناس : خلأت الناقة أي : حرنت وأبت المشي - ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة . لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها " .

ثم أمر صلى الله عليه وسلم الناس بالنزول في هذا المكان . .

6- وعلمت قريش بنزول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الحديبية ، فبدأوا يرسلون رسلهم لمعرفة الأسباب التي حملت المسلمين إلى المجيء إليهم .

وكان من بين الرسل بُدَيل بن ورقاء الخزاعي . . فلما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب مجيئه إلى مكة ، أخبره أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت الحرام ، ومعظما لحرمته . .

وعاد بديل إلى مكة ، وأخير المشركين بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم لم يقتنعوا ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا . والله لا يدخلها علينا عنوة أبدا . . .

7- ثم أرسلت قريش رسلا آخرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان من بينهم ، عروة بن مسعود الثقفي . . فكان مما قاله للرسول صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس –أي : أخلاطهم- ثم جئت بهم إلى أهلك . . إن قريشا قد تعاهدت أنك لن تدخل عليهم مكة عنوة . .

وكان عروة خلال حديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يمد يده إلى لحيته صلى الله عليه وسلم فكان المغيرة ابن شعبة يقرع يد عروة ويقول له : اكفف يداك عن وجه رسول الله قبل أن لا تصل إليك .

وشاهد عروة ما شاهد من احترام المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم فعاد إلى المشركين وقال لهم : يا معشر قريش ، إني قد جئت كسرى في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم . .

8- ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش عثمان بن عفان –رضي الله عنه- لكي يخبرهم بأن المسلمين ما جاءوا لحرب ، وإنما جاءوا للطواف بالبيت .

وذهب إليهم عثمان وأخبرهم بذلك ، ولكنهم صمموا على منع المسلمين من دخول مكة ، قالوا لعثمان : إن شئت أنت أن تطوف بالبيت فطف .

فقال لهم : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال مكث عثمان عند قريش ، حتى أشبع بين المسلمين أنه قد قتله المشركون .

فقال صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل : " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا المسلمين إلى مبايعته على الموت ، فبايعه المسلمون على ذلك تحت شجرة الرضوان . . .

ثم جاء عثمان بعد ذلك دون أن يصيبه أذى . . .

9- وأخيرا أوفدت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا منهم اسمه سهيل بن عمرو ، ليعقد صلحا مع المسلمين ، وقالوا له : أنت محمدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فوالله لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا . .

وعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سهيلا مقبلا نحوه ، قال لأصحابه : لقد سهل الله لكم من أمركم ، إن قريشا أرادت الصلح حين بعث هذا الرجل .

وتم الصلح بين الفريقين على ما يأتي :

أولا : أن يرجع المسلمون دون زيارة البيت هذا العام ، فإذا كان العام التالي : أخلت قريش لهم مكة ثلاثة أيام ، ليطوفوا بالبيت ، وليس معهم إلا السيوف في غمدها . .

ثانيا : أن تضع الحرب أوزارها بين الطرفين عشر سنوات .

ثالثا : من أتى الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش مسلما بغير إذن وليه رده إليهم ، ومن أتى قريش من المسلمين لم يردوه .

رابعا : من أحب أن يدخل في عقد مع الرسول صلى الله عليه وسلم فله ما أراد . ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فله ذلك .

ولقد عز على بعض المسلمين قبول الرسول صلى الله عليه وسلم فله ما أراد . ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فله ذلك .

ولقد عز على بعض المسلمين قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الشروط ، التي ظاهرها الظلم للمسلمين ، حتى قال عمر –رضي الله عنه- للرسول صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري " .

ثم أشار صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين أن يتحللوا من عمرتهم ، بأن ينحروا هديهم ، وأن يحلقوا رءوسهم أو يقصروا . ولكنهم لم يسارعوا بالامتثال ، فدخل صلى الله عليه وسلم على زوجه أم سلمة –رضي الله عنها- ، وقد ظهر الغضب على وجهه .

فقالت له : يا رسول الله ، اعذرهم ، وابدأ بما تأمرهم به دون أن تكلم منهم أحدا .

فقام صلى الله عليه وسلم فنحر هديه ، ودعا حالقه فحلق له ، فلما رأى المسلمون ذلك من نبيهم ، قاموا فنحروا هديهم ، وجعل بعضهم يحلق بعضا .

ثم أقام المسلمون بعد ذلك عدة أيام بالحديبية ، ثم قفلوا راجعين إلى المدينة ، وعندما سمع صلى الله عليه وسلم بعضهم يقول : لقد رجعنا ولم نصنع شيئا . .

قال صلى الله عليه وسلم " بل فتحتم أعظم الفتح " .

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله هذا . فقد كان صلح الحديبية فتحا عظيما ، كما تبين ذلك عند تفسيرنا للسورة الكريمة .

وبهذا العرض المجمل لأحداث صلح الحديبية ، نكون قد أعطينا القارئ فكرة مركزة عن هذا الصلح ، وعن الجو العام الذي نزلت في أعقابه سورة الفتح ، ومن أراد المزيد لمعرفة أحداث صلح الحديبية فليرجع إلى كتب السيرة( {[2]} ) .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .

افتتحت سورة " الفتح " بهذه البشارات السامية ، والمدائح العالية للنبى - صلى الله عليه وسلم - افتتحت بقوله - تعالى - : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .

والفتح فى الأصل : إزالة الأغلاق عن الشئ . . وفتح البلد : المقصود به الظفر به ، ووقوعه تحت سيطرة الفاتح .

والذى عليه المحققون من العلماء أن المراد بالفتح هنا : صلح الحديبية وما ترتب عليه من خيرات كثيرة ، ومنافع جمة للمسلمين .

ويشهد لذلك أحاديث متعددة منها : ما أخرجه البخارى وأبو داود والنسائى عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان قد خرج إليها - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين هلال ذى القعدة ، فأقام بها بضعة عشر يوما ، ثم قفل راجعا إلى المدينة ، فينما نحن نسير إلى المدينة إذ أتاه الوحى - وكان إذا أتاه اشتد عليه - فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .

وروى الإِمام أحمد وأبو داود عن مجمع بن جارية الأوسى قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا منها وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا عند كراع الغميم - موضع بين مكة والمدينة - وقد جمع الناس وقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } الآيات .

فقال رجل : يا رسول الله ، أو فتح هو ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : أو والذى نفسى بيده إنه لفتح .

ويرى بعضهم : أن المراد بالفتح هنا : فتح مكة ، والتعبير عنه بالماضى فى قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } لتحقق الوقوع ، فهو من قبيل قوله - تعالى - : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . . . } ويبدو لنا أن المراد بالفتح هنا صلح الحديبية لوجود اللآثار الصحيحة التى تشهد لذلك ، ولأن هذا الصلح قد ترتب عليه من المنافع للدعوة الإِسلامية ما يجعله من أعظم الفتوح ، إن لم يكن أعظمها .

لقد ترتب عليه أن انتشر الأمان بين المسلمين والمشركين ، فاستطاع المسلمون أن ينشروا دعوة الحق فى مكة وفى غيرها ، كما استطاعوا أن ينتقلوا من مكان إلى آخر للتبشير بدينهم ، فترتب على ذلك أن دخل فى الإِسلام عدد كبير من الناس .

قال الزهرى : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين ، فسمعوا كلامهم ، وتمكن الإِسلام من قلوبهم ، وأسلم خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإِسلام .

قال ابن هشام : والدليل على صحة قول الزهرى ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية فى الف وأربعمائة من أصحابه ثم خرج إلى مكة فى عام الفتح - بعد ذلك بسنتين - فى عشرة آلاف من أصحابه .

وقد أكد - سبحانه - هذا الفتح بثلاثة أنواع من المؤكدات ، وهى " إن " والمصدر " فتحا " والوصف " مبينا " وذلك للمسارعة إلى تبشير المؤمنين بتحقق هذا الفتح ، ولإِدخال السرور على قلوبهم ، بعد تلك الشروط التى اشتمل عليها الصلح ، والتى ظنها بعضهم أن فيها إجحافا بالمسلمين .

وأسند - سبحانه - الفعل إلى نون العظمة { فَتَحْنَا } لتفخيم شأن المخبر - عز وجل - وعلو شأن المخبَر عنه وهو الفتح .

وقدم - سبحانه - الجار والمجرور { لَكَ } على المفعول المطلق { فَتْحاً } للاهتمام وللإِشعار بأن ذلك الفتح كان من أجله - صلى الله عليه وسلم - وفى ذلك ما فيه من تعظيم أمره - صلى الله عليه وسلم - ومن وجوب طاعته ، والامتثال لأمره .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.