فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفتح

هي تسع وعشرون آية ، وهي مدنية

قال القرطبي : بالإجماع . وبه قال ابن عباس وابن الزبير . وعن المسور بن مخرمة ومروان قالا نزلت بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها . وهذا لا ينافي الإجماع على كونها مدنية ، لأن المراد بالسور المدنية النازلة بعد الهجرة من مكة .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما . عن عبد الله ابن المغفل قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيرة سورة الفتح على راحلته فرجع فيها " .

وفي الصحيحين . عن زيد بن أسلم عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلا ، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال عمر بن الخطاب هلكت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيب فقال عمر فحركت بعيري ثم تقدمت أما الناس وخشيت أن ينزل في قرآن ، فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي ، فقلت لقد خشيت أن يكون قد نزل في قرآن ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال لقد أنزلت علي سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ : إنا فتحنا لك فتحا مبينا " .

وفي صحيح مسلم : " عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : لما نزلت إن فتحنا لك فتحا مبينا إلى قوله فوزا عظيما مرجعه من الحديبية . وهم يخالطهم الحزن والكآبة ، وقد نحروا الهدي بالحديبية فقال لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعها " {[1]} .

{ إنا فتحنا لك فتحا مبينا } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده قيل المراد الحكم والقضاء كما في قوله { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } ، فكأنه قال إنا قضينا وحكمنا لك فتحا ظاهرا واضحا مكشوفا بغير قتال ولا تعب ، والفتح والظفر بالبلدة ، عنوة أو صلحا بحرب أو غير حرب ، وبخراج أو بدونه لأنه مغلق . ما لم يظفر به فإذا ظفر به فقد فتح ، مأخوذ من فتح باب الدار ، وجيء به بلفظ الماضي لأن عادة الله في تحققها بمنزلة الكائنة ، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر عنه ، وهو الفتح ما لا يخفى ، وإسناده إلى نون العظمة لاستناد أفعال العباد إليه تعالى خلقا وإيجادا ، واختلف في تعيين هذا الفتح فقال الأكثر على ما في البخاري : هو صلح الحديبية ، والصلح قد يسمى فتحا قال الفراء : والفتح قد يكون صلحا ، وقال قوم : إنه فتح مكة ، وقال آخرون : إنه فتح خبير ، والأول أرجح ، ويؤيده ما ذكرناه قبل هذا من أن السورة نزلت في شأن الحديبية .

وقيل : هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح ، وقيل : هو ما فتح له من النبوة ، والدعوة إلى الإسلام ، وقيل : فتح الروم ، ومعنى الفتح في اللغة فتح المنغلق ، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مشدودا متعذرا ، حتى فتحه الله ، قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم ، فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام .

قال الشعبي : لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبويع بيعة الرضوان ، وأطمعوا نخل خبير ، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس ، وقال الزجاج : كان في فتح الحديبية آية عظيمة ، وذلك أنه نزح ماؤها ولم يبق فيها قطرة فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مجه في البئر فدرت بالماء حتى شرب جميع الناس .

" وعن مجمع بن جارية الأنصاري قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا منها حتى بلغنا كراع الغميم إذ الناس يوجفون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ فقالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس إليه فقرأ عليهم إنا فتحنا لك فتحا مبينا ، فقال رجل : أي رسول الله أو فتح هو ؟ فقال : إي والذي نفس محمد بيده ، إنه لفتح ، فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهما{[1503]} ، أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل وغيرهم . وعن ابن مسعود قال : " أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرى عنه ، وبه من السرور ما شاء الله فأخبرنا أنه أنزل عليه إنا فتحنا لك فتحا مبينا " {[1504]} أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وغيرهم وعن أنس في الآية قال الحديبية أخرجه البخاري وغيره .

وعن البراء قال : " تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية " {[1505]} أخرجه البخاري وغيره .

وعن عائشة قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا فتحنا الخ فتح مكة أخرجه ابن مردويه وعن أنس نحوه ومذهب أبي حنيفة أن مكة فتحت عنوة ومذهب الشافعي أنها فتحت صلحا وفي البويطي أن أسفلها فتحه خالد عنوة وأعلاها فتحه الزبير صلحا ودخل صلى الله عليه وسلم من جهته فصار الحكم له وبهذا تجتمع الأخبار التي ظاهرها التعارض .


[1]:ثم بفتح الثاء أي هناك.
[1503]:رواه أحمد.
[1504]:رواه أحمد.
[1505]:البخاري في صحيحه.