غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

( سورة الفتح مدنية حروفها ألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون كلماتها خمسمائة وستون آياتها تسع وعشرون )

1

التفسير : الفتح في باب الجهاد هو الظفر بالبلد بصلح أو حرب لأنه منغلق ما لم يظفر به . والجمهور على أن المراد به ما جرى يوم الحديبية . عن أنس قال : لما رجعنا عن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة ، أنزل الله { إنا فتحنا } فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد أنزل عليّ آية هي أحب إليّ من الدنيا كلها " والحديبية بئر سمي المكان بها وكان قد غاض ماؤها فتمضمض فيها النبي صلى الله عليه وسلم فجاء بالماء حتى عمهم . وعن ابن شهاب : لم يكن في الإسلام فتح أعظم من فتح الحديبية وضعت الحرب وأمن الناس . وقال الشعبي : أصاب النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غيرها ، بويع فيها بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وظهرت الروم على فارس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد به فصح صدقه وأطعم نخل خيبر . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة أحب أن يزور بيت الله الحرام بمكة فخرج قاصداً نحوه في سنة ست من الهجرة ، وخرج معه أولو البصيرة وتخلف من كان في قلبه مرض ظناً منه أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً . واستصحب سبعين بدنة لينحرها بمكة ، ولما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأحرم بالعمرة لتعلم قريش أنه لم يأت لقتال وكانوا ألفاً وثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة فبايعوه إلا جد بن قيس فإنه اختبأ تحت إبطي ناقته ، فجاءه عروة بن مسعود لإيقاع صلح . فلما رأي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله على أني أرى وجوهاً وأسراباً خليقاً أن يفروا ويدعوك ؟ فشتمه أبو بكر فلما عاد إلى قريش قال : لقد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك وما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً . والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلموا عنده خفضوا أصواتهم ، وما يحدّون النظر إليه تفخيماً ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه . فلما اتفقوا على الصلح جاء سهيل بن عمرو والمخزومي وتصالحوا على أن لا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة سنته بل يعود في القابل ويقيم ثلاثة أيام ثم ينصرف ، فلما كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه " بسم الله الرحمن الرحيم " . قال سهيل : ما نعرف " الرحمن الرحيم " اكتب في قضيتنا ما نعرف " باسمك اللهم " . ولما كتب " هذا ما صالح محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم " . قال : لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك ، اكتب محمد بن عبد الله . فتنازع المسلمون وقريش في ذلك وكادوا يتواثبون ، فمنعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالإجابة فكتب " هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشاً على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله ، ومن قدم المدينة مجتازاً إلى مصر والشام أو يبتغي من فضل الله فهو على دمه وأهله آمن ، وعلى أنه من جاء محمداً من قريش فهو إليهم ردّ ، ومن جاءهم من أصحاب محمد فهو لهم " فاشتدّ ذلك على المسلمين فقال النبي صلى الله عيله وسلم : من جاءهم منا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فإن علم الله منه الإسلام جعل له مخرجاً . فلما فرغوا من الهدنة نحر النبي صلى الله عليه وسلم وحلق وفعل أصحابه ذلك فنزل عليه في طريقه في هذا الشأن { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } يريد ما كان من أمر الحديبية والفتح قد يكون بالصلح . وقيل : المراد به فتح مكة ، وعده الله ذلك بلفظ الماضي على عادة إخبار الله . وقال ابن عيسى : الفتح الفرج المزيل للهم ومنه فتح المسألة إذا انفرجت عن بيان يؤدّي إلى الثقة . وقيل وهو قول قتادة : الفتح القضاء والحكم ، والفتاح القاضي ، والفتاحة الحكومة أي حكما لك بهذه المهادنة وأرشدناك إلى الإسلام ليغفر لك الله . قال أهل النظم : لأوّل هذه السورة مناسبة تامة مع آخر السورة المتقدّمة وذلك أنه قال { ما أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا } [ محمد : 38 ] إلى آخره فبين بعد ذلك أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاعت عنهم هذه الفوائد . وأيضاً لما قال { وأنتم الأعلون } بين برهانه بصلح الحديبية أو بفتح مكة وكان في قوله { وتدعوا إلى السلم } إشارة إلى ما جرى يوم الحديبية من أن المسلمين صبروا إلى أن طلب المشركون الصلح .

/خ29