فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفتح

هي تسع وعشرون آية ، وهي مدنية قال القرطبي : بالإجماع . وقد أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : نزلت سورة الفتح بالمدينة . وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله . وأخرج ابن إسحاق والحاكم وصححه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة ومروان قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها وهذا لا ينافي الإجماع على كونها مدنية ، لأن المراد بالسورة المدنية النازلة بعد الهجرة من مكة . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن مغفل قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجع فيها . وفي الصحيحين عن زيد بن أسلم عن أبيه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وعمر بن الخطاب يسير معه ليلاً ، فسأله عمر عن شيء فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر بن الخطاب : هلكت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك ، فقال عمر : فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في قرآن ، فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي ، فقلت : لقد خشيت أن يكون قد نزل في قرآن ، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه ، فقال : لقد أنزلت علي سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } » وفي صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : لما نزلت { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } الآية إلى قوله : { فوزاً عظيماً } مرجعه من الحديبية وهم مخالطهم الحزن والكآبة ، وقد نحروا الهدي بالحديبية فقال : «لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعها » .

قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } اختلف في تعيين هذا الفتح ، فقال الأكثر : هو صلح الحديبية ، والصلح قد يسمى فتحاً . قال الفراء : والفتح قد يكون صلحاً ، ومعنى الفتح في اللغة : فتح المنغلق ، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذراً حتى فتحه الله . قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين ، فسمعوا كلامهم ، فتمكن الإسلام في قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام . قال الشعبي : لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وبويع بيعة الرّضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس . وقال قوم : إنه فتح مكة . وقال آخرون : إنه فتح خيبر . والأوّل أرجح ، ويؤيده ما ذكرناه قبل هذا من أن السورة أنزلت في شأن الحديبية . وقيل : هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح ، وقيل : هو ما فتح له من النبوّة ، والدعوة إلى الإسلام ، وقيل : فتح الروم ، وقيل : المراد بالفتح في هذه الآية : الحكم والقضاء . كما في قوله : { افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } [ الأعراف : 89 ] فكأنه قال : إنا قضينا لك قضاءً مبيناً ، أي ظاهراً واضحاً مكشوفاً .

/خ7