البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفتح

هذه السورة مدنية ، وعن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة ، ولعل بعضاً منها نزل ، والصحيح أنها نزلت بطريق منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، سنة ست من الهجرة ، فهي تعد في المدني .

0

0

ولما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية ، تكلم المنافقون وقالوا : لو كان محمد نبياً ودينه حق ، ما صد عن البيت ، ولكان فتح مكة .

فأكذبهم الله تعالى ، وأضاف عز وجل الفتح إلى نفسه ، إشعاراً بأنه من عند الله ، لا بكثرة عدد ولا عدد ، وأكده بالمصدر ، ووصفه بأنه مبين ، مظهر لما تضمنه من النصر والتأييد .

والظاهر أن هذا الفتح هو فتح مكة .

وقال الكلبي ، وجماعة : وهو المناسب لآخر السورة التي قبل هذه لما قال : { ها أنتم هؤلاء تدعون } الآية ، بين أنه فتح لهم مكة ، وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ؛ ولو بخلوا ، لضاع عليهم ذلك ، فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم .

وأيضاً لما قال : { وأنتم الأعلون والله معكم } بين برهانه بفتح مكة ، فإنهم كانوا هم الأعليين .

وأيضاً لما قال : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } كان فتح مكة حيث لم يلحقهم وهن ، ولا دعوا إلى صلح ، بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين مسلمين .

وكانت هذه البشرى بلفظ الماضي ، وإن كان لم يقع ، لأن إخباره تعالى بذلك لا بد من وقوعه ، وكون هذا الفتح هو فتح مكة بدأ به الزمخشري .

وقال الجمهور : هو فتح الحديبية ؛ وقاله : السدي ، والشعبي ، والزهري .

قال ابن عطية : وهو الصحيح . انتهى .

ولم يكن فيه قتال شديد ، ولكن ترام من القوم بحجارة وسهام .

وعن ابن عباس : رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم .

وعن الكلبي : ظهروا عليهم حتى سألوه الصلح .

قال الشعبي : بلغ الهدى محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس ، وأطعموا كل خيبر .

وقال الزهري : لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبية ، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم ، وتمكن الإسلام من قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام .

قال القرطبي : فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف .

وقال موسى بن عقبة : قال رجل منصرفهم من الحديبية : ما هذا الفتح ؟ لقد صدونا عن البيت .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بل هو أعظم الفتوح ، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادكم بالراح ، ويسألونكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، ورأوا منكم ما كرهوا » وكان في فتحها آية عظيمة وذلك أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مجه فيها ، فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه .

وقيل : فجاش الماء حتى امتلأت ، ولم ينفد ماؤها بعد .

وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكون فتحاً ، وقد أحصروا فنحروا وحلقوا بالحديبية ؟ قلت : كان ذلك قبل الهدنة ، فلما طلبوها وتمت كان فتحاً مبنياً . انتهى .

وفي هذا الوقت اتفقت بيعة الرضوان ، وهو الفتح الأعظم ، قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب ، وفيه استقبل فتح خيبر وامتلأت أيدي المؤمنين خيراً ، ولم يفتحها إلا أهل الحديبية ، ولم يشركهم أحد من المتخلفين عن الحديبية .

وقال مجاهد : هو فتح خيبر .

وفي حديث مجمع بن جارية : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا ، إذ الناس يهزون الأباعر ، فقيل : ما بال الناس ؟ قالوا : أوحى الله للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فخرجنا نرجف ، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم عند كراع الغميم ، فلما اجتمع الناس ، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } .

قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أوفتح هو يا رسول الله ؟ قال : « نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح » فقسمت خيبر على أهل الحديبية ، ولم يدخل فيها أحد إلا من شهد الحديبية .

وقال الضحاك : الفتح : حصول المقصود بغير قتال ، وكان الصلح من الفتح ، وفتح مكة بغير قتال ، فتناول الفتحين : الحديبية ومكة .

وقيل : فتح الله تعالى له بالإسلام والنبوّة والدعوة بالحجة والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كلها ، إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا وهو تحته ومتشعب منه .

وقيل : قضينا لك قضاءً بيناً على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل ، ليطوفوا بالبيت من الفتاحة ، وهي الحكومة ، وكذا عن قتادة .