السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا} (1)

مقدمة السورة:

مكية وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وستون كلمة وألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا .

{ بسم الله } أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلما { الرحمن } الذي عم خلقه بنعمه { الرحيم } الذي خص أهل وداده بمزيد فضله روى زيد بن أسلم عن أبيه أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه . ثم سأله فلم يجبه قال عمر فحركت بعيري حتى تقدّمت أمام الناس وخشيت أن يكون نزل فيّ قرآن فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال : «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ » .

{ إنا فتحنا لك } أي : بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال { فتحناً مبينا } أي : لا لبس فيه على أحد . واختلفوا في هذا الفتح فروى عن أنس أنه فتح مكة . وقال مجاهد : فتح خيبر . والأكثرون على أنه صلح الحديبية . قال أنس : نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم { إنا فتحنا لك } إلى آخر الآية عند مرجعه من الحديبية وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة فقال : «نزلت علي آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعها » فلما تلاها نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم هنيأً مريئاً قد بين الله لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل الله تعالى : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنّات تجري من تحتها الأنهار } [ الفتح : 5 ] حتى ختم الآية . وقيل : فتح الروم . وقيل : فتح الإسلام بالحجة والبرهان والسيف واللسان . وقيل : الفتح الحكم لقوله تعالى { فافتح بيننا وبين قومنا بالحق } [ سورة الأعراف : 89 ] وقوله تعالى { ثم يفتح بيننا بالحق } [ سورة سبأ : 26 ] فمن قال هو فتح مكة قال لأنه مناسب لآخر السورة التي قبلها من وجوه أحدها أنه تعالى لما قال { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله } [ محمد : 38 ] إلى أن قال { ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه } [ محمد : 38 ] بين تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم .

ثانيها : لما قال تعالى : { والله معكم } [ محمد : 35 ] وقال تعالى { وأنتم الأعلون } [ محمد : 35 ] بين برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون . ثالثها لما قال تعالى { فلا تنهوا وتدعوا إلى السلم } [ محمد : 35 ] وكان معناه لا تسألوا الصلح بل اصبروا فإنكم تسألوا الصلح كما كان يوم الحديبية فكان المراد فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ومستسلمين فإن قيل : إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن فتحت . فكيف قال تعالى : { فتحنا } بلفظ الماضي أجيب من وجهين : أحدهما فتحنا في حكمنا وتقديرنا .

ثانيهما : ما قدّره الله تعالى فهو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر واقع لا دافع له . وأمّا حجة قول الأكثرين على أنه صلح الحديبية فلما روى البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناء فتوضأ ثم تمضمض ودعا وصبه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه » وقيل : جاش حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد وقال الشعبي في قوله تعالى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } قال فتح الحديبية غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر واطعموا نخل خيبر وبلغ الهدي محله وظهرت الروم على فارس ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس . قال الزهري : ولم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية . وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر سواد الإسلام . وقال البغوى : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } أي : قضينا لك قضاءً مبيناً . وقال الضحاك : أي بغير مال وكان الصلح من الفتح .