{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى { وأزواجه أمهاتهم } في حرمة نكاحهن عليهم { وأولو الأرحام } والأقارب { بعضهم أولى ببعض } في الميراث { في كتاب الله } في حكمه { من المؤمنين والمهاجرين } وذلك أنهم كانوا في ابتداء الإسلام يرثون بالإيمان والهجرة { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا } لكن إن يوصوا لهم بشيء من الثلث فهو جائز { كان ذلك في الكتاب مسطورا } كان هذا الحكم في اللوح المحفوظ مكتوبا
ولما نهى سبحانه عن التبني ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة مولاه{[55054]} لما اختاره على أبيه وأمه{[55055]} ، علل سبحانه النهي فيه بالخصوص بقوله دالاً على أن الأمر أعظم من ذلك : { النبي } أي{[55056]} الذي ينبئه الله بدقائق الأحوال في بدائع الأقوال ، ويرفعه دائماً في مراقي الكمال ، ولا يريد أن يشغله بولد ولا مال { أولى بالمؤمنين } أي الراسخين في الإيمان ، فغيرهم أولى في{[55057]} كل شيء من أمور الدين والدنيا لما حازه من الحضرة الربانية { من أنفسهم } فضلاً عن آبائهم في{[55058]} نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم ، لأنه لا يدعوهم إلا إلى العقل والحكمة ، ولا يأمرهم إلا بما ينجيهم ، وأنفسهم إنما تدعوهم إلى الهوى والفتنة فتأمرهم بما يرديهم ، فهو يتصرف فيهم{[55059]} تصرف الآباء بل الملوك{[55060]} بل{[55061]} أعظم بهذا السبب الرباني ، فأيّ حاجة له{[55062]} إلى السبب{[55063]} الجسماني { وأزواجه } أي اللاتي دخل بهن لما لهن من حرمته { أمهاتهم } أي المؤمنين{[55064]} من الرجال خاصة دون النساء ، لأنه لا محذور من جهة النساء ، وذلك في الحرمة والإكرام ، والتعظيم والاحترام ، وتحريم النكاح دون جواز الخلوة والنظر وغيرهما من الأحكام ، والتعظيم بينهن وبين الأمهات في ذلك أصلاً ، فلا يحل انتهاك حرمتهن بوجه ولا الدنو من جنابهن بنوع نقص ، لأن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أعظم من حق الوالد على ولده ، وهو حي في قبره و{[55065]} هذا أمر جعله الله {[55066]}وهوالذي إذا جعل شيئاً كان{[55067]} ، لأن الأمر أمره والخلق خلقه{[55068]} ، وهو العالم بما يصلحهم وما يفسدهم
{ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير }[ الملك : 14 ] روى الشيخان{[55069]} عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه{[55070]} قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فأيما مؤمن ترك مالاً{[55071]} فلترثه عصبته من كانوا ، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني وأنا مولاه " .
ولما رد الله سبحانه الأشياء إلى أصولها ، ونهى عن التشتت والتشعب ، وكان من ذلك أمر التبني ، وكان من المتفرع عليه الميراث بما كان قديماً من الهجرة والنصرة والأخوة التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم لما كان الأمر{[55072]} محتاجاً إليها ، وكان ذلك قد نسخ بالآية{[55073]} التي في آخر الأنفال ، وهي قبل هذه السورة ترتيباً ونزولاً ، وكان ما ذكر هنا فرداً داخلاً في عموم العبارة{[55074]} في تلك الآية{[55075]} ، أعادها منا{[55076]} تأكيداً وتنصيصاً على هذا الفرد للاهتمام به مع ما فيها من تفصيل وزيادة فقال : { و{[55077]} أولوا الأرحام } أي القرابات بأنواع النسب من النبوة وغيرها{[55078]} { بعضهم أولى } بحق القرابة { ببعض } في جميع المنافع العامة للدعوة والإرث والنصرة والصلة { في كتاب الله } أي قضاء الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ، وحكمه كما تقدم في كتابكم هذا ، وكما أشار إليه الحديث الماضي آنفاً .
ولما بين أنهم أولى بسبب القرابة ، بين المفضل عليه فقال : { من } أي هم أولى بسبب القرابة من { المؤمنين }{[55079]} الأنصار{[55080]} من غير{[55081]} قرابة مرجحة { والمهاجرين } المؤمنين من غير قرابة{[55082]} كذلك ، ولما كان المعنى : أولى{[55083]} في{[55084]} كل نفع ، استثنى منه على القاعدة الاستثناء من أعم العام قوله ، لافتاً النظم إلى أسلوب الخطاب ليأخذ المخاطبون منه أنهم متصفون بالرسوخ في الإيمان الذي مضى ما دل عليه في آية الأولوية من التعبير بالوصف ، فيحثهم ذلك على فعل المعروف : { إلا أن تفعلوا } أي{[55085]} حال كونكم موصلين ومسندين { إلى أوليائكم } بالرق أو التبني{[55086]} أو الحلف في الصحة مطلقاً وفي المرض من الثلث تنجيراً أو وصية { معروفاً } تنفعونهم{[55087]} به ، فيكون حينئذ ذلك الولي مستحقاً لذلك ، ولا يكون ذو الرحم أولى منه ، بل لا وصية لوارث .
ولما أخبر أن هذا الحكم في كتاب الله ، أعاد التنبيه على ذلك تأكيداً قلعاً لهذا الحكم الذي تقرر في الأذهان بتقريره سبحانه فيما مضى فقال مستأنفاً : { كان ذلك } أي الحكم العظيم { في الكتاب } أي القرآن في آخر سورة الأنفال { مسطوراً * } بعبارة تعمه ، قال الأصبهاني{[55088]} : وقيل : في التوراة ، لأن في التوراة : إذا نزل رجل بقوم من أهل دينه فعليهم أن يكرموه ويواسوه ، وميراثه لذوي قرابته ، فالآية من الاحتباك : أثبت وصف الإيمان أولاً دليلاً على حذفه ثانياً و{[55089]} وصف الهجرة ثانياً دليلاً على حذف النصرة أولاً .
قوله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا }
يبين الله م كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من بالغ الشفقة والرحمة بأمته وما كان عليه من شديد الحرص عليهم والنصح لهم . لا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد العالمين حدبا ورأفة واهتماما بالمسلمين ، بل بالبشرية كافة . وهو عليه الصلاة والسلام حريص على هداية الناس وإيمانهم ؛ لكي يستقيموا وتصلح حالهم ، فتكتب لهم النجاة والسلامة والصلاح في الدنيا والآخرة ؛ فهو بذلك أولى بالمؤمنين من أنفسهم فضلا عن كونه أولى بهم من غيرهم ، فوجب على المسلمين بذلك أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ؛ وأن يقدموه فيما دعاهم إليه ، ويؤخروا ما دعتهم إليه أنفسهم ، وأن يحبوه أعظم الحب أكثر من حبهم أنفسهم . وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " وكذلك جاء في الصحيح أن عمر ( رضي الله عنه ) قال : يا رسول الله والله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي فقال صلى الله عليه وسلم : " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال : يا رسول الله لأنت أحبُّ إلي من كل شيء حتى من نفسي . فقال صلى الله عليه وسلم : " الآن يا عمر " .
وروى البخاري عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة . اقرؤوا إن شئتم { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا . وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " .
وأخرج الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " أنا أولى مؤمن من نفسه ، فأيما رجل مات وترك دينا فإليّ ، ومن ترك مالا فهو لورثته " .
قوله : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } ذلك تشريف من الله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ جعلهن أمهات المؤمنين . وذلك في وجوب التوقير والاحترام والإعظام وحرمة النكاح على الرجال . لكن لا تجوز الخلوة بهن ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ، بل إن هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة النبي .
قوله : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } المراد بكتاب الله ، القرآن أو هو حكم الله . والمعنى : أن أولي القرابات أولى بالتوارث في حكم الله ، من المهاجرين والأنصار وهذا نسخ للتوارث بالهجرة ؛ فقد كانوا من قبل يتوارثون بالحِلف ، والمؤاخاة في الدين ، التي كانت بينهم . قال ابن عباس في ذلك : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه ؛ للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكذا قال آخرون من السلف والخلف . فقد روي عن الزبير بن العوام ( رضي الله عنه ) قال : أنزل الله عز وجل فينا خاصة معشر قريش والأنصار { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نِعْمَ الإخوانُ ، فواخيناهم ووارثناهم . فآخى أبو بكر ( رضي الله عنه ) خارجة بنت زيد ، وآخى عمر ( رضي الله عنه ) فلانا ، وآخى عثمان ( رضي الله عنه ) رجلا من بني زريق ، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة فرجعنا إلى مواريثنا .
قوله : { إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } يعني ، إلا أن توصوا لذوي قراباتكم من غير أهل الإيمان والهجرة . فقد ذهب الميراث ، وبقي البر والإحسان والصلة والوصية . وقيل : نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني . أي يُفعل هذا مع الولي القريب وإن كان كافرا . فالمشرك وليّ في النسب لا في الدين فيوصى له بوصية .
قوله : { كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } المراد بالكتاب اللوح المحفوظ . وقيل : القرآن . و { مَسْطُورًا } يعني مكتوب . سطرت الكتاب سطرا أي كتبته . ويجمع السطر على أسطر وسطور{[3695]} .
والمعنى : أن هذا الحكم وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض مكتوب ومُثبت من الله في كتابه الأزلي الذي فيه علم الأولين والآخرين ، فهو لا يأتي عليه التغيير أو التبديل{[3696]}
وتخصيص أولي الأرحام والقرابات بالميراث ، مراعاة حقيقة وكبرى لفطرة الإنسان الذي جُبل على حب ذويه أولي القربى والميل إليهم بشدة واحترار . والإنسان قد جُعلت في أعماقه مودة مطبوعة ؛ لأقربائه من البنين والبنات والآباء والأمهات والأجداد والجدات والأعمام والعمات والأخوال والخالات . أولئك يميل الطبع البشري إليهم ؛ ليفيض عليهم بالرأفة والرقة والحدْب والتحتان . فلا جرم أن هذه مزية أصلية ومفطورة من مزايا الإسلام العظيم ، وهي خِصِّيصة من خصائص الإسلام تشهد له بالصلوح للبشرية في كل زمان .