اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَأٓكِلُونَ مِن شَجَرٖ مِّن زَقُّومٖ} (52)

{ لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } ، وهو شجر كريه المَنْظَر كريه الطعم ، وهو المذكور في سورة «والصَّافَّات » .

وهذا الخطاب عامّ ، وقيل : لأهل «مكة » ، وهو من تمام كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقدم هنا الضَّالين على المكذبين في آخر السورة ، قال : { وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذّبين الضآلين } ، فقدم المكذبين على الضَّالين ؛ لأنهم هنا أصرُّوا على الحنث العظيم فضلوا عن السبيل ، ثم كذبوا الرسول ، وقالوا : «أئذا مِتْنَا » .

وفي آخر السورة قدم المكذبين بالحشر على الضالين عن طريق الخلاص ، أو يقال : إنَّ الكلام هنا مع الكُفَّار وهم ضلوا أولاً ، وكذبوا ثانياً ، وفي آخر السورة الكلام مع النبي صلى الله عليه وسلم فقدم التكذيب به إظهاراً للعناية به صلى الله عليه وسلم{[54926]} .

قوله : { مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } . فيه أوجه{[54927]} :

أحدها : أن تكون «من » الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للبيان ، أي : مبتدئون الأكل من شجر هو زقوم .

الثاني : أن تكون «من » الثَّانية صفة ل «شجر » فيتعلق بمحذوف أي : مستقر .

الثالث : أن تكون الأولى مزيدة ، أي : لآكلون شجراً ، و«من » الثانية على ما تقدم من الوجهين .

الرابع : عكس هذا ، وهو أن تكون الثانية مزيدة ، أي : لآكلون زقُّوماً ، و«من » الأولى للابتداء في محل نصب على الحال من «زقّوم » أي : كائناً من شجر ، ولو تأخَّر لكان صفة .

الخامس : أن «من شجر » صفة لمفعول محذوف ، أي : لآكلون شيئاً من شجر و«مِنْ زقُّومٍ » على هذا نعت ل «شجر » أو لشيءٍ محذوف .

السادس : أن الأولى للتبعيض ، والثانية بدل منها .

قوله : { فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } .

الضمير في «منها » عائد على الشجر ، وفي «عليه » للشجر أيضاً .

وأنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه ، وأنهما لغتان .

وقيل : الضمير في «عليه » عائد على «الزَّقُّوم » .

وقال أبو البقاء : للمأكول .

وقال ابن عطية : «للمأكول أو الأكل » انتهى{[54928]} .

وفي قوله : «الأكْل » بُعْد .

وقال الزمخشري{[54929]} : «وأنّث ضمير الشجر على المعنى ، وذكره على اللفظ في «منها » و«عليه » ، ومن قرأ{[54930]} : { مِن شَجَرَةٍ مِّن زَقُّومٍ } فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم ؛ لأنه تفسيرها » .

فصل في تحرير معنى الزقوم

قال ابن الخطيب{[54931]} : «اختلفت أقوال الناس في «الزقوم » ، وحاصل الأقوال يرجع إلى كون ذلك في الطَّعم مرًّا ، وفي اللمس حارًّا ، وفي الرائحة منتناً ، وفي المنظر أسود لا يكاد آكله يَسيغهُ .

والتحقيق اللغوي فيه أن الزَّقوم لغة عربية ، ودلنا تركيبه على قبحه ؛ لأن «ز ق م » لم يجتمع إلا في مهمل ، أو في مكروه .

يقال منه : مَزَقَ يَمْزقُ ، ومنه : زَمَقَ شعره إذا نتفه ، ومنه «القَزْمُ » للدَّناءة واللؤم .

وأقوى من هذا أن «القاف » مع كل حرف من الحرفين الباقيين يدل في أكثر الأمر على مكروه ، فالقاف مع «الميم » ك «القمامة والتَّقَمْقُم والقُمْقُمة » ، وبالعكس «المقامق » لتغليظ الصوت ، و«المَقْمَقَة » هو الشق .

وأما القاف مع الزاي ف «الزق » رمي الطائر بذرقه ، والزَّقْزقة : للخفة ، وبالعكس - القزنوب - فينفر الطَّبع من تركيب الكلمة من حروف اجتماعها دليل الكراهة والقُبْح ، ثم قرن بالأكل ، فدلَّ على أنه طعام ذو غُصَّة .

وأما ما يقال : بأن العرب تقول : «زَقَمْتَنِي » بمعنى : أطعمتني الزّبد والعسل واللَّبن ، فذلك للمجانة ، كما يقال : ارشقني بثوب حسن ، وارجمني بكيس من ذهب » .

وقد تقدم الكلام على الزَّقُوم في «والصَّافات » .

وقوله : { فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } .

بيان لزيادة العذاب ، أي : لا يكتفى منكم بنفس الأكل ، كما يكتفى ممن يأكل الشَّيء لتحلّة القسم ، بل يلزمون منها بأن يملئوا منها البطون .

وقوله : «البُطُون » إما مقابلة الجمع بالجمع ، أي : يملأ كل واحد منكم بطنه .

وإما أن يكون لكل واحد بطون ، ويكون المراد منه ما في بطن الإنسان ، وهم سبعة أمعاء فيملئون بطون الأمعاء ، والأول أظهر ، والثاني أدخل في التعذيب{[54932]} .

قوله : { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ } أي : على الأكل ، أو على الزَّقوم لأجل مرارته وحرارته يحتاجون إلى شرب الماء فيشربون من الماء الحار .


[54926]:ينظر: الرازي 29/151، 152.
[54927]:ينظر: الدر المصون 6/261.
[54928]:السابق، والمحرر الوجيز 5/247.
[54929]:ينظر: الكشاف 4/463.
[54930]:وهي قراءة عبد الله كما في البحر المحيط 8/209، والمحرر الوجيز 5/247.
[54931]:التفسير الكبير 29/152.
[54932]:ينظر السابق.