مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرٖ} (4)

قوله تعالى : { تنزل الملائكة والروح فيها } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن نظر الملائكة على الأرواح ، ونظر البشر على الأشباح ، ثم إن الملائكة لما رأوا روحك محلا للصفات الذميمة من الشهوة والغضب ما قبلوك . فقالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، وأبواك لما رأوا قبح صورتك في أول الأمر حين كنت منيا وعلقة ما قبلوك أيضا ، بل أظهروا النفرة ، واستقذروا ذلك المني والعلقة ، وغسلوا ثيابهم عنه ، ثم كم احتالوا للإسقاط والإبطال ، ثم إنه تعالى لما أعطاك الصورة الحسنة فالأبوان لما رأوا تلك الصورة الحسنة قبلوك ومالوا إليك ، فكذا الملائكة لما رأوا في روحك الصورة الحسنة وهي معرفة الله وطاعته أحبوك فنزلوا إليك معتذرين عما قالوه أولا ، فهذا هو المراد من قوله : { تنزل الملائكة } فإذا نزلوا إليك رأوا روحك في ظلمة ليل البدن ، وظلمة القوى الجسمانية فحينئذ يعتذرون عما تقدم : { ويستغفرون للذين آمنوا } .

المسألة الثانية : أن قوله تعالى : { تنزل الملائكة } يقتضي ظاهره نزول كل الملائكة ، ثم الملائكة لهم كثرة عظيمة لا تحتمل كلهم الأرض ، فلهذا السبب اختلفوا فقال بعضهم : إنها تنزل بأسرها إلى السماء الدنيا ، فإن قيل الإشكال بعد باق لأن السماء مملوءة بحيث لا يوجد فيها موضع إهاب إلا وفيه ملك ، فكيف تسع الجميع سماء واحدة ؟ قلنا : يقضي بعموم الكتاب على خبر الواحد ، كيف والمروي إنهم ينزلون فوجا فوجا فمن نازل وصاعد كأهل الحج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة بالكلية لكن الناس بين داخل وخارج ، ولهذا السبب مدت إلى غاية طلوع الفجر فلذلك ذكر بلفظ : { تنزل } الذي يفيد المرة بعد المرة .

والقول الثاني : وهو اختيار الأكثرين أنهم ينزلون إلى الأرض وهو الأوجه ، لأن الغرض هو الترغيب في إحياء هذه الليلة ، ولأنه دلت الأحاديث على أن الملائكة ينزلون في سائر الأيام إلى مجالس الذكر والدين ، فلأن يحصل ذلك في هذه الليلة مع علو شأنها أولى ، ولأن النزول المطلق لا يفيد إلا النزول من السماء إلى الأرض ، ثم اختلف من قال : ينزلون إلى الأرض على وجوه : ( أحدها ) قال بعضهم : ينزلون ليروا عبادة البشر وجدهم واجتهادهم في الطاعة ( وثانيها ) : أن الملائكة قالوا : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } فهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بذلك النزول فلا يدل على غاية المحبة .

وأما هذه الآية وهو قوله : { بإذن ربهم } فإنها تدل على أنهم استأذنوا أولا فأذنوا ، وذلك يدل على غاية المحبة ، لأنهم كانوا يرغبون إلينا ويتمنون لقاءنا . لكن كانوا ينتظرون الإذن ، فإن قيل قوله : { وإنا لنحن الصافون } ينافي قوله : { تنزل الملائكة } قلنا نصرف الحالتين إلى زمانين مختلفين ( وثالثها ) : أنه تعالى وعد في الآخرة أن الملائكة : { يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } فههنا في الدنيا إن اشتغلت بعبادتي نزلت الملائكة عليك حتى يدخلوا عليك للتسلم والزيارة ، روي عن علي عليه السلام : «أنهم ينزلون ليسلموا علينا وليشفعوا لنا فمن أصابته التسليمة غفر له ذنبه » ( ورابعها ) : أن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إلى الأرض لتصير طاعاتهم أكثر ثوابا ، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعته هناك أكثر ثوابا ، وكل ذلك ترغيب للإنسان في الطاعة ( وخامسها ) : أن الإنسان يأتي بالطاعات والخيرات عند حضور الأكابر من العلماء والزهاد أحسن مما يكون في الخلوة ، فالله تعالى أنزل الملائكة المقربين حتى أن المكلف يعلم أنه إنما يأتي بالطاعات في حضور أولئك العلماء العباد الزهاد فيكون أتم وعن النقصان أبعد ( وسادسها ) : أن من الناس من خص لفظ الملائكة ببعض فرق الملائكة ، عن كعب أن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة مما يلي الجنة ، فهي على حد هواء الدنيا وهواء الآخرة ، وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله يعبدون الله ومقام جبريل في وسطها ، ليس فيها ملك إلا وقد أعطى الرأفة والرحمة للمؤمنين ينزلون مع جبريل ليلة القدر ، فلا تبقى بقعة من الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات ، وجبريل لا يدع أحدا من الناس إلا صافحهم ، وعلامة ذلك من اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه ، فإن ذلك من مصافحة جبريل عليه السلام ، من قال فيها ثلاث مرات : لا إله إلا الله غفر له بواحدة ، ونجاه من النار بواحدة ، وأدخله الجنة بواحدة ، وأول من يصعد جبريل حتى يصير أمام الشمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من تلك الليلة ثم يدعو ملكا ملكا ، فيصعد الكل ويجتمع نور الملائكة ونور جناح جبريل عليه السلام ، فيقيم جبريل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشغولين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين ، ولمن صام رمضان احتسابا ، فإذا أمسوا دخلوا سماء الدنيا فيجلسون حلقا حلقا فتجمع إليهم ملائكة السماء فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة ، حتى يقولوا : ما فعل فلان وكيف وجدتموه ؟ فيقولون : وجدناه عام أول متعبدا ، وفي هذا العام مبتدعا ، وفلان كان عام أول مبتدعا ، وهذا العام متعبدا ، فيكفون عن الدعاء للأول ، ويشتغلون بالدعاء للثاني ، ووجدنا فلانا تاليا ، وفلانا راكعا ، وفلانا ساجدا ، فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا السماء الثانية وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى السدرة . فتقول لهم السدرة : يا سكاني حدثوني عن الناس فإن لي عليكم حقا ، وإني أحب من أحب الله ، فذكر كعب أنهم يعدون لها الرجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم ، ثم يصل ذلك الخبر إلى الجنة ، فتقول الجنة : اللهم عجلهم إلي ، والملائكة ، وأهل السدرة يقولون : آمين آمين ، إذا عرفت هذا فنقول ، كلما كان الجمع أعظم ، كان نزول الرحمة هناك أكثر ، ولذلك فإن أعظم الجموع في موقف الحج ، لا جرم كان نزول الرحمة هناك أكثر ، فكذا في ليلة القدر يحصل مجمع الملائكة المقربين ، فلا جرم كان نزل الرحمة أكثر .

المسألة الأولى : ذكروا في الروح أقوالا ( أحدها ) : أنه ملك عظيم ، لو التقم السموات والأرضين كان ذلك له لقمة واحدة ( وثانيها ) : طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا ليلة القدر ، كالزهاد الذين لا نراهم إلا يوم العيد ( وثالثها ) : خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ، ولا من الإنس ، ولعلهم خدم أهل الجنة ( ورابعها ) : يحتمل أنه عيسى عليه السلام لأنه اسمه ، ثم إنه ينزل في مواقفة الملائكة ليطلع على أمة محمد ( وخامسها ) : أنه القرآن . { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } ( وسادسها ) : الرحمة قرئ : { لا تيأسوا من روح الله } بالرفع كأنه تعالى ، يقول : الملائكة ينزلون رحمتي تنزل في أثرهم فيجدون سعادة الدنيا وسعادة الآخرة ( وسابعها ) : الروح أشرف الملائكة ( وثامنها ) : عن أبي نجيح الروح هم الحفظة والكرام الكاتبون فصاحب اليمين يكتب إتيانه بالواجب ، وصاحب الشمال يكتب تركه للقبيح ، والأصح أن الروح ههنا جبريل . وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه كأنه تعالى يقول الملائكة في كفة والروح في كفة .

أما قوله تعالى : { بإذن ربهم } فقد ذكرنا أن هذا يدل على أنهم كانوا مشتاقين إلينا ، فإن قيل : كيف يرغبون إلينا مع علمهم بكثرة معاصينا ؟ قلنا : إنهم لا يقفون على تفصيل المعاصي روي أنهم يطالعون اللوح ، فيرون فيه طاعة المكلف مفصلة ، فإذا وصلوا إلى معاصيه أرخى الستر فلا ترونها ، فحينئذ يقول : سبحان من أظهر الجميل ، وستر على القبيح ، ثم قد ذكرنا فوائد في نزولهم ونذكر الآن فوائد أخرى وحاصلها أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات أشياء ما رأوها في عالم السموات ( أحدها ) : أن الأغنياء يجيئون بالطعام من بيوتهم فيجعلونه ضيافة للفقراء والفقراء يأكلون طعام الأغنياء ويعبدون الله ، وهذا نوع من الطاعة لا يوجد في السموات ( وثانيها ) : أنهم يسمعون أنين العصاة وهذا لا يوجد في السموات ( وثالثها ) : أنه تعالى قال : «لأنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين » فقالوا : تعالوا نذهب إلى الأرض فنسمع صوتا هو أحب إلى ربنا من صوت تسبيحنا ، وكيف لا يكون أحب وزجل المسبحين إظهار لكمال حال المطيعين ، وأنين العصاة إظهار لغفارية رب الأرض والسموات .

المسألة الثانية : هذه الآية دالة على عصمة الملائكة ونظيرها قوله : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } وقوله : { لا يسبقونه بالقول } وفيها دقيقة وهي أنه تعالى لم يقل : مأذونين بل قال : { بإذن ربهم } وهو إشارة إلى أنهم لا يتصرفون تصرفا ما إلا بإذنه ، ومن ذلك قول الرجل لامرأته إن خرجت إلا بإذني ، فإنه يعتبر الإذن في كل خرجة .

المسألة الثالثة : قوله : { ربهم } يفيد تعظيما للملائكة وتحقيرا للعصاة ، كأنه تعالى قال : كانوا لي فكنت لهم ، ونظيره في حقنا : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } وقال لمحمد عليه السلام : { وإذ قال ربك } ونظيره ما روي أن داود لما مرض مرض الموت قال : إلهي كن لسليمان كما كنت لي ، فنزل الوحي وقال : قل لسليمان فليكن لي كما كنت لي ، وروي عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه فقد الضيف أياما فخرج بالسفرة ليلتمس ضيفا فإذا بخيمة ، فنادى أتريدون الضيف ؟ فقيل : نعم ، فقال للمضيف : أيوجد عندك إدام لبن أو عسل ؟ فرفع الرجل صخرتين فضرب إحداهما بالأخرى فانشقا فخرج من إحداهما اللبن ومن الأخرى العسل ، فتعجب إبراهيم وقال : إلهي أنا خليلك ولم أجد مثل ذلك الإكرام ، فماله ؟ فنزل الوحي يا خليلي كان لنا فكنا له .

أما قوله تعالى : { من كل أمر } فمعناه تنزل الملائكة والروح فيها من أجل كل أمر ، والمعنى أن كل واحد منهم إنما نزل لمهم آخر ، ثم ذكروا فيه وجوها ( أحدها ) : أنهم كانوا في أشغال كثيرة فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود ، وبعضهم بالدعاء ، وكذا القول في التفكر والتعليم ، وإبلاغ الوحي ، وبعضهم لإدراك فضيلة الليلة أو ليسلموا على المؤمنين ( وثانيها ) : وهو قول الأكثرين من أجل كل أمر قدر في تلك السنة من خير أو شر ، وفيه إشارة إلى أن نزولهم إنما كان عبادة ، فكأنهم قالوا : ما نزلنا إلى الأرض لهوى أنفسنا ، لكن لأجل كل أمر فيه مصلحة المكلفين ، وعم لفظ الأمر ليعم خير الدنيا والآخرة بيانا منه أنهم ينزلون بما هو صلاح المكلف في دينه ودنياه كأن السائل يقول : من أين جئت ؟ فيقول : مالك وهذا الفضول ، ولكن قل : لأي أمر جئت لأنه حظك ( وثالثها ) : قرأ بعضهم : { من كل امرئ } أي من أجل كل إنسان ، وروي أنهم لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه ، قيل : أليس أنه قد روي أنه تقسم الآجال والأرزاق ليلة النصف من شعبان ، والآن تقولون : إن ذلك يكون ليلة القدر ؟ قلنا : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله يقدر المقادير في ليلة البراءة ، فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها » وقيل : يقدر ليلة البراءة الآجال والأرزاق ، وليلة القدر يقدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة ، وقيل : يقدر في ليلة القدر ما يتعلق به إعزاز الدين ، وما فيه النفع العظيم للمسلمين ، وأما ليلة البراءة فيكتب فيها أسماء من يموت ويسلم إلى ملك الموت .