السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرٖ} (4)

الوجه الثاني : من فضائلها ما ذكره الله تعالى في قوله جلّ ذكره : { تنزل } أي : تنزلاً متدرجاً متواصلاً على غاية ما يكون من الخفة والسرعة بما أشار إليه حذف التاء { الملائكة } أي : إلى الأرض . روي أنه إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة وهم سكان سدرة المنتهى { والروح } أي : جبريل عليه السلام { فيها } أي : في الليلة ومعه أربعة ألوية ، فينصب لواء على قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولواء على ظهر بيت المقدس ، ولواء على ظهر المسجد الحرام ، ولواء على ظهر سيناء ، ولا يدع بيتاً فيه مؤمن ولا مؤمنة إلا دخله وسلم عليهم ، يقول : يا مؤمن ويا مؤمنة السلام يقرئك السلام ، إلا على مدمن خمر ، وقاطع رحم ، وآكل لحم خنزير . وعن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى » . وهذا يدل على أن الملائكة كلهم لا ينزلون ، وظاهر الآية نزول الجميع ، وجمع بين ذلك بما روي أنهم ينزلون فوجاً فوجاً كما أنّ أهل الحج يدخلون الكعبة فوجاً بعد فوج ، وإن كانت لا تسعهم دفعة واحدة ، كما أن الأرض لا تسع الملائكة دفعة واحدة ، ولذلك ذكر بلفظ تنزل الذي يقتضي المرّة بعد المرّة ، أي : ينزل فوج ويصعد فوج ، والله أعلم بذلك .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن الملائكة في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى ، وقال بعضهم : الروح ملك تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ، وله ألف رأس أعظم من الدنيا ، وفي كل رأس ألف وجه ، وفي كل وجه ألف فم ، وفي كل فم ألف لسان يسبح الله تعالى ، بكل لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد ، ولكل لسان لغة لا تشبه لغة أخرى . فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّت ملائكة السماوات السبع سجداً مخافة أن تحرقهم أنوار أفواهه ، وإنما يسبح الله تعالى غدوة وعشية ، فينزل في ليلة القدر لشرفها وعلوّ شأنها فيستغفر للصائمين والصائمات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بتلك الأفواه كلها إلى طلوع الفجر .

وعن عليّ أنه صلى الله عليه وسلم قال : «رأيت ليلة أسري بي ملكاً رجلاه جاوزت من الأرض السابعة السفلى ، ورأسه من السماء السابعة العليا ، ومن لدن رأسه إلى قدميه وجوه وأجنحة في كل وجه فم ولسان يسبح الرحمن تسبيحاً لا يسبحه العضو الآخر ، ولو أمره الله تعالى أن يلتقم السماوات السبع والأرضين السبع لقمة واحدة ، كما يلتقم أحدكم اللقمة لأطاق ذلك ، ثم لم تكن تلك في فيه إلا كلقمة أحدكم في فيه ، ولو سمع أهل الدنيا صوته بالتسبيح لصعقوا ، ما بين شحمة أذنه إلى منكبه خفقان الطير السريع سبعة آلاف سنة ، وهو رأس الملائكة » . وقيل : الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر . { بإذن ربهم } أي : بأمر المحسن إليهم المربي لهم { من كل أمر } أي : قضاه الله تعالى فيها لتلك السنة إلى قابل ، وتقدّم الجمع بينها وبين ليلة النصف من شعبان ، ومن سببية بمعنى الباء .