{ واكتب لَنَا } أي أثبت واقسم لنا { فِى هذه الدنيا } التي عرانا فيها ما عرانا { حَسَنَةٌ } حياة طيبة وتوفيقا للطاعة .
وقيل : ثناءاً جميلاً وليس بجميل ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة { وَفِي الاخرة } أي واكتب لنا أيضاً في الآخرة حسنة وهي المثوبة الحسنى والجنة .
قيل : إن هذا كالتأكيد لقوله : اغفر وارحم { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أي تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع وتاب كما قال :
إني امرىء مما جنيت هائد *** ومن كلام بعضهم :
يا راكب الذنب هدهد *** واسجد كأنك هدهد
وقيل : معناه مال ، وقرأ بن علي رضي الله تعالى عنهما { هُدْنَا } بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك ، وأخرج ابن المنذر . وغيره عن أبي وجرة السعدي أنه أنكر الضم وقال : والله لا أعلمه في كلام أحد من العرب وإنما هو هدنا بالكسر أي ملنا وهو محجوج بالتواتر ، وجوز على هذه القراءة أن يكون الفعل مبنياً للفاعل والمفعول بمعنى حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا ، وكذا على قراءة الجماعة ، والبناء للمفعول عليها على لغة من يقول : عود المريض ، ولا بأس بذلك إذا كان الهود بمعنى الميل سوى أن تلك لغة ضعيفة ، وممن جوز الأمرين على القراءتين الزمخشري . وتعقبه السمين بأنه متى حصل الالتباس وجوب أن يأتي بحركة تزيله فيقال : عقت إذا عاقك غيرك بالكسر فقط أو الاشمام إلا أن سيبويه جوز في نحو قيل الأوجه الثلاثة من غير احتراز ، والجملة تعليل لطلب المغفرة والرحمة ، وتصديرها بحرف التحقيق لاظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها { قَالَ } استئناف بياني كأنه قيل : فماذا قال الله تعالى له بعد دعائه ؟ فقيل : قال : { عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } أي شأني أصيب بعذابي من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه .
وقرأ الحسن . وعمرو الأسود { مِنْ * أَسَاء } بالسين المهملة ونسبت إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأنكر بعضهم صحتها { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي ، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضي الذات وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد ، والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضاً ، وعدم التصريح بها قيل : تعظيماً لأمر الرحمة ، وقيل : للاشعار بغاية الظهور ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَسَأَكْتُبُهَا } فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كما لا يخفى ، كأنه قيل : فإذا كان الأمر كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسعة رحمتي لكل من أشاء فسأثبتها إثباتاً خاصاً { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي الكفر والمعاصي أما ابتداءاً أو بعد الملابسة { وَيُؤْتُونَ الزكواة } المفروضة عليهم في أموالهم وقيل المعنى يطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والظاهر خلافه ، وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى عليه السلام لأن كان شاقا عليهم لمزيد حبهم للدنيا ، ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع انافتها على سائر العبادات وكونها عماد الدين اكتفار منها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك المنهيات عن آخرها { والذين هُم بئاياتنا } كلها كما يفيده الجمع المضاف { يُؤْمِنُونَ } إيماناً مستمراً من غير اخلال بشيء منها ، وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال ويؤمنون بآياتنا عطفاً على ما قبله كما سلك في سابقه قيل : لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض ، وفيه تعرض بمن آمن ببعض وكفر ببعض كقوم موسى عليه السلام .
واختلف في توجيه هذا الجواب فقال شيخ الإسلام : لعل الله تعالى حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم وكان الكلام الذي أطمع السبعين في الرؤية في ذلك ضمن موسى عليه السلام دعاءه التخفيف والتيسير حيث قال : { واكتب لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً } أي خصلة حسنة عارية عن المشقة والشدة فإن في القتل من العذاب الشديد ما لا يخفى فأجابه سبحانه بأن عذابي أصيب به من أشاء وقومك ممن تناولته مشيئتي ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوي ورحمتي وسعت كل شيء وقد نال قومك نصيب منها في ضمن العذاب الدنيوي وسأكتب الرحمة خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي كما دعوت لمن صفتهم كيت وكيت لا لقومك لأنهم ليسوا كذلك فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة العذاب ، وعلى هذا فموسى عليه السلام لم يستجب له سؤاله في قومه ومن الله تعالى بما سأله على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما أجيب بما ذكر قال : أتيتك يا رب بوفد من بني إسرائيل فكانت وفادتنا لغيرنا . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعا موسى ربه سبحانه فجعل دعاءه لمن آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام واتبعه ، وفي رواية أخرى رواها جمع عنه سأل موسى ربه مسألة فاعطاها محمداً صلى الله عليه وسلم وتلا الآية ، لكن لا يخفى أن ما قرره هذا الشيخ بعيد . وقال صاحب الكشف في ذلك : كأنه لما سأل موسى عليه السلام لنفسه ولقومه خير الدارين أجيب بأن عذابي لغير التائبين ان شئت ورحمتي الدنيوية تعم التائب وغيره وأما الجمع بين الرحمتين فهو للمستعدين فإن تاب من دعوت لهم وثبتوا كأعقابهم نالتهم الرحمة الخاصة الجامعة وأثر فيهم دعاؤك وإن داوموا على ما هم فيه بعدوا عن القبول ، والغرض ترغيبهم على الثبات على التوبة والعمل الصالح وتحذيرهم عن المعاودة عما فرط منهم مع التخلص إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم والحث على اتباعه أحسن تخلص وحث يحير الألباب ويبدي للمتأمل فيه العجب العجاب ، وإلى بعض هذا يشير كلام الزمخشري .
وقال العلامة الطيبي في توجيهه : إن هذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم ، وقوله سبحانه : { عَذَابِى } الخ كالتمهيد للجواب ، والجواب { فَسَأَكْتُبُهَا } الخ ، وذلك أن موسى عليه السلام طلب الغفران والرحمة والحسنة في الدارين لنفسه ولأمته خاصة بقوله : { واكتب لَنَا } وعلله بقوله : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } فأجابه الرب سبحانه بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة فإن عذابي من شأنه أنه تابع لمشيئتي فأمتك لو تعرضوا لما اقتضت الحكمة تعذيب من باشره لا ينفعهم دعاؤك لهم وإن رحمتي من شأنها أن تعم في الدنيا الخلق صالحهم وطالحهم مؤمنهم وكافرهم فالحسنة الدنيوية عامة فلا تختص بأمتك فتخصيصها تحجير للواسع وأما الحسنة الأخروية فهي للموصوفين بكذا وكذا ، وجعل { فَسَأَكْتُبُهَا } كالقول بالموجب لأنه عليه السلام طلب ما طلب وجعل العلة ما جعل فضم الله تعالى ما ضم ، يعني أن الذي يوجب اختصاص الحسنتين معا هذه الصفات المتعددة لا التوبة المجردة ، ثم ذكر أن ترتيب هذا على ما قبله بالفاء على منوال قوله تعالى جواباً عن قول إبراهيم عليه السلام : { وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] وأيد هذا التقرير بما روي عن الحسن . وقتادة وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة ا ه ما أريد منه ، وما ذكره من حديث التحجر في القلب منه شيء فإن الظاهر أن ما في دعاء موسى عليه السلام ليس منه وإنما التحجر في مثل ما أخرجه أحمد . وأبو داود عن جندب عن عبد الله البجلي قال : «جاء اعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها وصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نادى اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام : لقد حظرت رحمة واسعة إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وانسها وبهائمها وعنده تسعة وتسعون » . وأنا أقول : قد يقال : إن موسى عليه السلام إنما طلب على أبلغ وجه المغفرة والرحمة الدنيوية والأخروية له ولقومه وتعليل ذلك بالتوبة مما لا شك في صحته ، ولا يفهم من كلامه عليه السلام أنه طلب للقوم كيف كانوا وفي أي حالة وجدوا وعلى أي طريقة سلكوا فإن ذلك مما لا يكاد يقع ممن له أدنى معرفة بربه فضلاً عن مثله عليه السلام ، وإنما هذا الطلب لهم من حيث إنهم تائبون راجعون إليه عز شأنه ، ولا يبعد أن يقال باستجابة دعائه بذلك بل هي أمر مقطوع به بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ؛ وكيف يشك في أنه غفر له ورحم وأوتي خير الدارين وهو هو وأما بالنسبة إلى قومه فالظاهر أن التائب منهم أوتي خير الآخرة لأن هذه التوبة إن كانت هي التوبة بالقتل فقد جاء عن الزهري أن الله تعالى أوحي إلى موسى بعد أن كان ما كان ما يحزنك ؟ أما من قتل منكم فحي يرزق عندي وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو اسرائيل ، وإن كانت غيرها فمن المعلوم أن التوبة تقبل بمقتضى الوعد المحتوم ، وخير من قبلت توبته في الآخرة كثير ، وأما خير الدنيا فقد نطقت الآيات بأن القوم غرقي فيه ، ويكفي في ذلك قوله تعالى :
{ يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِى التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } [ البقرة : 47 ] .
وحينئذ فيمكم أن يقال في توجيه الجواب : أنه سبحانه لما رأى من موسى عليه السلام شدة القلق والاضطراب ولهذا بالغ في الدعاء خشية من طول غضبه تعالى على من يشفق عليه من ذلك سكن جل شأنه روعته وأجاب طلبته بأسلوب عجيب ، وطريق بديع غريب فقال سبحانه له : { عَذَابِى } أي الذي تخشى أن تصيب بعض نباله التي أرميها بيد جلالي عن قسى إرادتي من دعوت له أصيب به من أشاء فلا يتعين قومك الذين تخشى عليهم ما تخشى لأن يكون غرضاً له بعد أن تابوا من الذنب وتركوا فعله { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } إنساناً كان أو غيره مطيعاً كان أو غيره فما من شيء إلا وهو داخل فيها سابح في تيارها أو سايح في فيافيها بل ما من معذب إلا ويرشح عليه ما يرشح منها ولا أقل من أني لم أعذبه بأشد مما هو فيه مع قدرتي عليه فطب نفسا وقرعينا فدخول قومك في رحمة وسعت كل شيء ولم تضق عن شيء أمر لا شك فيه ولا شبهة تعتريه كيف وقد هادوا إلى ووفدوا على أفتري أني أضيق الواسع عليهم وأوجه نبال الخيبة إليهم وأردهم بخفى حنين فيرحع كل منهم صفر الكفين ؟ لا أراني أفعل بل إني سأرحمهم وأذخب عنهم ما أهمهم وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم الذين يأتون آخر الزمان ويتصفون بما يرضيني ويقومون بأعباء ما يراد منهم ، وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الخ ، ولعل تقديم وصف العذاب دون وصف الرحمة ليفرغ ذهنه عليه السلام مما يخاف منه مع أن في عكس هذا الترتيب ما يوجب انتشار النظم الكريم ؛ ووصف أخلاقهم بما وصفوا به لاستنهاض همهم إلى الاتصاف بما يمكن اتصافهم به منه أو إلى الثبات عليه ، ولم يصرح في الجواب بحصول السؤال بأن يقال : قد أوتيت سؤلك يا موسى مثلا اختياراً لما هو أبلغ فيه ، وهذا الذي ذكرناه وإن كان لا يخلو عن شيء إلا أنه أولى من كثير مما وقفنا عليه من كلام المفسرين وقد تقدم بعضه ، وأقول بعد هذا كله : خير الاحتمالات ما تشهد له الآثار وإذا صح الحديث فهو مذهبي فتأمل . والسين في { سأكتبها } يحتمل أن تكون للتأكيد ، ويحتمل أن تكون للاستقبال كما لا يخفي وجهه على ذوي الكمال .
( هذا ومن باب الإشارة ) : { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } وهي حسنة الاستقامة بالبقاء بعد الفناء ، وفي الآخرة حسنة المشاهدة ، والكلام في بقية الكلام لا يخفى على من له أدنى ذوق . خلا أن بعضهم أول العذاب في قوله سبحانه وتعالى : { عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } [ الأعراف : 156 ] بعذاب الشوق المخصوص الذي يصيب أهل العناية من الخواص وهو الرحمة التي لا يكتنه كنهها ولا يقدر قدرها وإنها لأعز من الكبريت الأحمر ، وأهل الظاهر يرونه بعيداً والقوم يقولون نراه قريباً ، وقالوا : الأمي نسبة إلى الأم لكن على حد أحمري ، وقيل : للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه أم الموجودات وأصل المكنونات ، واختير هذا اللفظ لما فيه من الإشارة إلى الرحمة والشفقة وهو الذي جاء رحمة للعالمين وإنه عليه الصلاة والسلام لأشفق على الخلق من الأم بولدها إذ له صلى الله عليه وسلم الحظ الأوفر من التخلق بأخلاق الله تعالى وهو سبحانه أرحم الراحمين ، وذكروا أن أتباعه من حيث النبوة الخواص ومن الأمية خواص الخواص ومن حيث الرسالة هؤلاء المذكورون كلهم والعوام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباعه صلى الله عليه وسلم في سائر شؤونه .