التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{۞وَٱكۡتُبۡ لَنَا فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِنَّا هُدۡنَآ إِلَيۡكَۚ قَالَ عَذَابِيٓ أُصِيبُ بِهِۦ مَنۡ أَشَآءُۖ وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـَٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ} (156)

( 17 ) هدنا إليك : رجعنا وتبنا إليك .

138

تعليق على جملة

{ قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء }

إلخ من الآية [ 156 ]

وهذه الجملة تتحمل تعليقا خاصا . والمتبادر من نظم الكلام أنها جواب من الله عز وجل إلى موسى الذي حكى أول الآية مناجاته لله وطلبه أن يكتب له ولقومه في الدنيا حسنة وفي الآخرة وإعلانه أنهم هادوا إليه . غير أنها شاملة المدى كما يبدو من التمعن فيها لقوم موسى ومن بعدهم ، وهي بسبيل تقرير وعد الله تعالى بأن يتغمد برحمته التي وسعت كل شيء الذين يتصفون بالصفات المذكورة فيها التي فيها جميع أسباب الصلاح والنجاة في الدنيا والآخرة . وينطوي في الآية دعوة الناس جميعهم إلى الاتصاف بها لينالوا رحمة الله الواسعة وتوفيقه وعنايته .

وفي الشطر الثاني تخصيص لما جاء مطلقا في الشطر الأول . فرحمة الله إنما ينالها المتصفون بتلك الصفات وحسب . وهذا الشطر يزيل ما يمكن أن يتبادر إلى الوهم من عبارة { عذابي أصيب به من أشاء } بكون الله تعالى يصيب بعذابه من يشاء من الناس بدون سبب منهم حيث يقتضي من الجواب الرباني أن يكون العذاب من نصيب الذين لا يتصفون بالصفات المذكورة . وهذا هو المتسق مع التقريرات القرآنية التي مرت أمثلة عديدة منها .

وهذا وذاك يجعل الاتكاء على هذه الآية بسبيل تأييد المذاهب والخلافات الكلامية بين الجبر والاختيار في غير محله . ويجعل أيضا ما يفعله بعض المسلمين من اقتطاع جملة { ورحمتي وسعت كل شيء } والتبشير بها إطلاقا غير سليم ؛ لأنها جزء من آية بل من سياق يفيد أن الله إنما يكتب رحمته للذين يتصفون بالصفات المذكورة فيها . ويفعل هذا بعض المسلمين في غير هذه الجملة أيضا . والحق يوجب على المسلم أن يستوعب كل الآية بتمامها ومع السياق السابق واللاحق لها حتى لا يحمل العبارات القرآنية غير ما تحمله أو أكثر مما تحمله .

ولقد أورد ابن كثير بضعة أحاديث نبوية رواها الإمام أحمد في سياق هذه الآية . منها حديث عن جندب بن عبد الله البجلي قال : ( جاء أعرابي فأناخ راحلته ، ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد ذلك أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ، ثم نادى : اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتقولون هذا أضل أم بعيره ؟ ألم تسمعوا ما قال ؟ قالوا : بلى ، قال : لقد حظرت رحمة واسعة . إن الله عز وجل خلق مائة رحمة ، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها . وأخر عنده تسعا وتسعين رحمة . أتقولون : هو أضل أم بعيره ؟ ) وحديث عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن لله عز وجل مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق . وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسعا وتسعين إلى يوم القيامة } ولقد روى شيئا من هذه الأحاديث الشيخان والترمذي بشيء من الفرق حيث رووا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( جعل الله الرحمة مائة جزء ، فأمسك عنده تسعة وتسعين ، وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ){[997]} . ورووا عنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة ){[998]} .

ومن الحكمة الملموحة في الأحاديث التبشير والتطمين بسعة رحمة الله لخلقه في الدنيا والآخرة .

تعليق على ذكر

{ الزكاة } في الآية [ 156 ]

وهذه هي المرة الأولى التي ترد فيها كلمة { الزكاة } بصيغتها الاصطلاحية في آية مكية . وقد وردت قبل بهذه الصيغة في آية مدنية وهي الآية الأخيرة من سورة المزمل . ووردت بصيغة { من تزكى } في إحدى آيات سورة الأعلى . ولقد علقنا على الموضوع بما يغني عن التكرار . وكل ما يمكن أن يقال هنا : إن صيغة الآية قد تفيد معنى الحث على إيتاء الزكاة والتنويه بمن يؤتونها . وقد تفيد معنى أن أناسا من الذين آمنوا كانوا يؤتون الزكاة فعلا . ونحن نرجح أن الآية احتوت المعنيين . ونرى فيها تدعيما لما قلناه في التعليق الذي كتبناه في تفسير سورة المزمل من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فرض على الميسورين من المسلمين أداء شيء من أموالهم باسم زكاة منذ عهد مبكر . والله أعلم .


[997]:التاج جـ5 ص 143.
[998]:-التاج جـ5 ص 143.