التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (100)

قوله : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا } { العرش } ، سرير الملك ؛ أي أجلس يوسف أبويه معه مكرمين معززين على السرير الذي يجلس عليه الملوك في العادة ، ثم خر الأبوان والإخوة سجدا ليوسف وكان ذلك في شريعتهم نازلا منزلة التحية ؛ فهو بذلك جائز . وقيل : كان سجودهم كالسجود المعهود عندنا اليوم وهو كان تحيتهم وهذا الراجح ، استنادا إلى الظاهر من معنى السجود . وقيل : كان انحناء كالركوع وليس خرورا على الأرض . وكذلك سلامهم بالتكفي والانحناء . والتكفي معناه التمايل إلى قدام كما تتكفأ السفينة في جريها . وفي الخبر عن صفة النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان إذا مشى تكفى تكفيا . وروي أنه مهموز وغير مهموز . وقيل : الأصل الهمز : تكفأ تكفؤا . والهمز حرف صحيح{[2299]} .

وكل هذه الضروب في التحية منسوخ في شريعة الإسلام . وإنما المشروع وحده للتحية ما كان بالكلام بدلا عن السجود أو الانحناء أو الإيماء أو التكفؤ ؛ فليس لمسلم بعد ذلك أن يحيي أخاه بشيء من ذلك ؛ فإنه كله صور من صور الشرك الذي ينافي عقيدة التوحيد في دين الإسلام .

قوله : { وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } قال يوسف لأبيه : هذا السجود الذي سجدتموه لي أنت وأمي وإخوتي لهو مآل رؤياي التي كنت رأيتها من قبل ما فعل بي إخوتي ما فعلوه ، وقد جعل ربي هذه الرؤيا { حقا } أي صادقة محققة . واختلفوا في قدر المدة التي كانت بين رؤيا يوسف وتأويلها . فقد قيل : كانت أربعين سنة ، وهو قول أكثر العلماء والمفسرين .

قوله : { وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ } أحسن الله إلي بإخراجي من السجن حيث كنت محبوسا ، وفي مجيئكم من البدو إلى هنا ؛ فقد ذكر أن مسكن يعقوب وولده كان ببادية فلسطين . وقيل : في عربة من أرض فلسطين بغور الشام ؛ فقد كان آل يعقوب أهل بآدية وشاء وإبل ينتقلون في المياه والمناجع . و { البدو } مصدر . بدا فلان يبدو بدوا ؛ إذا صار بالبادية . والبدوة تعني الإقامة في البادية وهي ضد الحضارة{[2300]} ؛ أي ما حصل بني وبين إخوتي سببه نزغ الشيطان ؛ فقد نزع بني وبينهم ؛ أي أفسد بيني وبينهم . وقد أسند خطيئة إخوته إلى الشيطان تلطفا منه وتواضعا . وقيل : أوقع الشيطان بيني وبينهم بإثارة الحسد في قلوبهم . { إن ربي لطيف لما شاء إنه هو العليم الحكيم } الله رفقي بعباده ؛ فهو يرحمهم برحمته ويكف عنهم البأساء واللأواء ، ويكون لهم خير حافظ ومعين إذا أحدقت بهم الشدائد والكروب ؛ فقد رحم عبده الصابر الطهور يوسف فاذهب عنه البلاء والشدة وكرمه خير تكريم { إنه هو العليم الحكيم } الله العليم بمصالح العباد . فليس من عليم بما ينفعهم أو يضرهم على الحقيقة سوى الله . وهو سبحانه الحكيم في تصرفه وتدبيره{[2301]} .


[2299]:لسان العرب جـ 1 ص 141، 142.
[2300]:مختار الصحاح ص 654.
[2301]:تفسير ابن كثير جـ 2 ص 491 وفتح القدير جـ 3 ص 56 وتفسير النسفي جـ 2 ص 238.