معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي  
{وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (100)

قوله تعالى : { ورفع أبويه على العرش } أي : على السرير ، أجلسهما . والرفع : هو النقل إلى العلو . { وخروا له سجداً } يعني : يعقوب وخالته وإخوته . وكانت تحية الناس يومئذ السجود ، ولم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض ، وإنما هو الانحناء والتواضع . وقيل : وضعوا الجباه على الأرض وكان ذلك على طريق التحية والتعظيم ، لا على طريق العبادة . وكان ذلك جائزا في الأمم السالفة فنسخ في هذه الشريعة . وروي عن ابن عباس أنه قال : معناه : خروا لله عز وجل سجدا بين يدي يوسف . والأول أصح . { وقال } يوسف عند ذلك : { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً } ، وهو قوله : { إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } { وقد أحسن بي } ربي ، أي : أنعم علي ، { إذ أخرجني من السجن } ، ولم يقل من الجب مع كونه أشد بلاء من السجن ، استعمالا للكرم ، لكيلا يخجل إخوته بعدما قال لهم : { لا تثريب عليكم اليوم } ، ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن أعظم ، لأنه بعد الخروج من الجب صار إلى العبودية والرق ، وبعد الخروج من السجن صار إلى الملك ، ولأنو وقوعه في البئر كان لحسد إخوته ، وفي السجن مكافأة من الله تعالى لزلة كانت منه . { وجاء بكم من البدو } ، والبدو بسيط من الأرض يسكنه أهل المواشي بماشيتهم ، وكانوا أهل بادية ومواشي ، يقال بدا يبدو إذا صار إلى البادية { من بعد أن نزغ } أفسد ، { الشيطان بيني وبين إخوتي } بالحسد { إن ربي لطيف } ، أي : ذو لطف { لما يشاء } وقيل : معناه بمن يشاء . وحقيقة اللطيف : الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق { إنه هو العليم الحكيم } . قال أهل التاريخ : أقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش ، ثم مات بمصر ، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق ، ففعل يوسف ذلك ، ومضى به حتى دفنه بالشام ، ثم انصرف إلى مصر .

قال سعيد بن جبير : نقل يعقوب عليه السلام في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ، فوافق ذلك اليوم الذي مات فيه العيص فدفنا في قبر واحد ، وكانا ولدا في بطن واحد ، وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة .