فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (100)

{ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش } أي : أجلسهما معه على السرير الذي يجلس عليه كما هو عادة الملوك .

{ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدَا } أي : الأبوان والأخوة ، والمعنى : أنهم خرّوا ليوسف سجداً ، وكان ذلك جائزاً في شريعتهم منزلاً منزلة التحية ؛ وقيل : لم يكن ذلك سجوداً بل هو مجرد إيماء ، وكانت تلك تحيتهم ، وهو يخالف معنى : وخرّوا له سجداً ، فإن الخرور في اللغة المقيد بالسجود لا يكون إلاّ بوضع الوجه على الأرض . وقيل : الضمير في قوله : { له } راجع إلى الله سبحانه ، أي : وخرّوا لله سجداً ، وهو بعيد جداً . وقيل : إن الضمير ليوسف ، واللام للتعليل أي : وخرّوا لأجله سجداً ، وفيه أيضاً بعد ؛ وقال يوسف : { يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رؤياي } يعني : التي تقدّم ذكرها { مِن قَبْلُ } أي : من قبل هذا الوقت { قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا } بوقوع تأويلها على ما دلت عليه { وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن } الأصل أن يتعدّى فعل الإحسان بإلى ، وقد يتعدّى بالباء كما في قوله تعالى : { وبالوالدين إحسانا } [ الإسراء : 23 ] ، وقيل : إنه ضمن أحسن معنى لطف أي : لطف بي محسناً ، ولم يذكر إخراجه من الجبّ ، لأن في ذكره نوع تثريب للإخوة ، وقد قال : لا تثريب عليكم . وقد تقدّم سبب سجنه ومدّة بقائه فيه ؛ وقد قيل : إن وجه عدم ذكر إخراجه من الجبّ أن المنة كانت في إخراجه من السجن أكبر من المنة في إخراجه من الجبّ ، وفيه نظر ، { وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو } أي : البادية ، وهي أرض كنعان بالشام ، وكانوا أهل مواش وبرية ، وقيل : إن الله لم يبعث نبياً من البادية ، وأن المكان الذي كان فيه يعقوب يقال له : بدا ، وإياه عني جميل بقوله :

وأنت الذي حببت شعباً إلى بدا *** إليّ وأوطاني بلاد سواهما

وفيه نظر ، { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } أي : أفسد بيننا وحمل بعضنا على بعض ، يقال : نزغه : إذا نخسه ، فأصله من نخس الدابة ليقوى مشيها . وأحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان تكرماً منه وتأدّباً { إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء } اللطيف : الرفيق ، قال الأزهري : اللطيف من أسماء الله تعالى معناه : الرفيق بعباده ، يقال : لطف فلان بفلان يلطف : إذا رفق به ، وقال عمرو بن أبي عمرو : اللطيف : الذي يوصل إليك أربك في لطف . قال الخطابي : اللطيف هو البرّ بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون . وقيل : اللطيف : العالم بدقائق الأمور . ومعنى { لما يشاء } : لأجل ما يشاء حتى يجيء على وجه الصواب { إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم } أي : العليم بالأمور ، الحكيم في أفعاله .

/خ101