السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (100)

{ و } لما استقرّت بهم الدار بدخول مصر { رفع أبويه } ، أي : أجلسهما معه { على العرش } ، أي : السرير الرفيع والرفع هو النقل إلى العلوّ { وخرّوا له } ، أي : انحنوا له أبواه وإخوته { سجداً } ، أي : سجود انحناء ، والتواضع قد يسمى سجوداً كقول الشاعر :

ترى ألا كم فيها سجداً للحوافر ***

لا وضع جبهة وكان تحيتهم في ذلك الزمان ، أو أنهم وضعوا الجباه وكان ذلك على طريقة التحية والتعظيم لا على طريقة العبادة ، وكان ذلك جائزاً في الأمم السالفة ، فنسخت في هذه الشريعة ، وروي عن ابن عباس أنه قال : معناه خرّوا لله سجداً بين يدي يوسف عليه السلام ، فيكون سجود شكر لله لأجل وجدان يوسف ، ويدل عليه قوله تعالى { ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً } وذلك يشعر بأنهم صعدوا على السرير ، ثم سجدوا لله تعالى ، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير ؛ لأنّ ذلك أدخل في التواضع .

فإن قيل : هذا التأويل لا يطابق قول يوسف عليه السلام { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } والمراد منه قوله { إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف ، 4 ] أي : رأيتهم ساجدين لأجلي ، أي : أنهم سجدوا لله لطلب مصلحتي والسعي في إعلاء منصبي ، وإذا كان هذا محتملاً سقط السؤال قال الرازيّ : وعندي أنّ هذا التأويل متعين ؛ لأنه يبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوّة أو أنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا شكراً لنعمة وجدانه ، فإنه يقال : صليت للكعبة كما يقال : صليت إلى الكعبة . قال حسان :

ما كنت أعرف أنّ الأمر منصرف *** عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن

أليس أوّل من صلى لقبلتكم *** وأعرف الناس بالآثار والسنن

ثم استأنف يوسف عليه السلام فقال { قد جعلها ربي } ، أي : الذي رباني بما أوصلني إليها { حقاً } ، أي : مطابقة للواقع لتأويلها وتأويل ما أخبرتني به أنت ، والتأويل تفسير ما يؤول إليه معنى الكلام ، وعن سلمان رضي الله تعالى عنه أنّ ما بين رؤياه وتأويلها أربعون سنة . وعن الحسن : أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وبقي في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة ، ثم وصل إلى أبيه وأقاربه وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة ، فكان عمره وعشرين سنة { وقد أحسن } ، أي : أوقع إحسانه { بي } تصديقاً لما بشرتني به من إتمام النعمة ، وتعدية أحسن بالباء أدل على القرب من التعدية بإلى ، وإن كان أصل أحسن أن يتعدّى بإلى كما قال تعالى : { وأحسن كما أحسن الله إليك } [ القصص ، 77 ] وقيل : ضمن معنى لطف فتعدّى بالباء كقوله تعالى : { وبالوالدين إحساناً } [ البقرة ، 83 ] وقال : { إذ أخرجني من السجن } ولم يذكر إخراجه من الجب لوجوه : أوّلها : أنه قال لإخوته : { لا تثريب عليكم اليوم } [ يوسف ، 92 ] ولو ذكر واقعة الجب لكان ذلك تثريباً لهم فكان إهماله جارياً مجرى الكرم .

ثانيها : أنه لما خرج من الجب لم يصر ملكاً بل صيروه عبداً ، وإنما صار ملكاً بعد إخراجه من السجن ، فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاماً كاملاً . ثالثها : أنه لما خرج من الجب وقع في المضارّ الحاصلة بسبب تهمة المرأة ولما خرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته ، فكان هذا أقرب إلى المنفعة مع أنّ اللفظ محتمل للجب أيضاً لكنه احتمال خفيّ ، ولما كان يعقوب وولده بأرض كنعان وتحوّل إلى بدو قال ابن عباس : ومنه قدم على يوسف قال يوسف عليه السلام : { وجاء بكم من البدو } ، أي : من أطراف بادية فلسطين وذلك من أكبر النعم ، كما جاء في الحديث : «من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة » والبدو ضدّ الحاضرة ، وهو من الظهور يقال : بدا يبدو إذا سكن في البادية ، يروى عن عمر : إذا بدونا جفونا ، أي : تخلقنا بأخلاق البدويين قال الواحدي : البدو بسط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد ، وأصله من بدا يبدو بدواً ، ثم سمي المكان باسم المصدر ، وفي الآية دلالة على أن فعل العبد خلق الله تعالى ؛ لأنه أضاف إخراجه من السجن إلى الله تعالى ومجيئهم من البدو إليه { من بعد أن نزغ } ، أي : أفسد { الشيطان } بسبب الحسد { بيني وبين إخوتي } وأصل النزغ دخول في أمر لإفساده .

فإن قيل : إضافة يوسف عليه السلام الخير إلى الله تعالى والشر إلى الشيطان تقتضي أن فعل الشر ليس من الله تعالى كما قاله بعض المبتدعة ، ولو كان منه لأضافه إليه .

أجيب : بأنّ إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مجاز ؛ لأنّ الفاعل المطلق هو الله تعالى في الحقيقة ، قال تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء ، 22 ] فثبت بذلك أنّ الكل من عند الله تعالى وبقضائه وقدره ، وليس للشيطان فيه مدخل إلا بإلقاء الوسوسة والتحريش لإفساد ذات البين ، وذلك بإقدار الله تعالى إياه على ذلك كما حكى الله تعالى ذلك عنه بقوله تعالى : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } [ إبراهيم ، 22 ] ولما كان حصول الاجتماع بينه وبين إخوته وأبويه مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال ، وكان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف قال يوسف عليه السلام { إنّ ربي لطيف لما يشاء } ، أي : لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته ، ويتسهل دونها فإذا أراد حصول الشيء سهل أسبابه فحصل ، وإن كان في غاية البعد عن الحصول { إنه هو العليم } بوجوه المصالح والتدابير { الحكيم } ، أي : الذي يفعل كل شيء في وقته وعلى وجه يقتضي الحكمة روي أنّ يوسف عليه السلام طاف بأبيه في خزائنه ، فلما أدخله خزانة القرطاس قال : يا بنيّ ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل ؟ قال : أمرني جبريل بذلك قال : أو ما تسأله ؟ قال : أنت أقرب مني إليه ، فسأله فقال جبريل : الله أمرني بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب ، قال : فهلا خفتني ؟ ولما حضر يعقوب عليه السلام الموت وصى يوسف عليه السلام أن يحمله ويدفنه عند أبيه فمضى بنفسه فدفنه ثمة . ثم عاد إلى مصر وأقام بعده ثلاثاً وعشرين سنة .