لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (100)

أوقف كُلاًّ بمحلِّة ؛ فَرَفَعَ أبويه على السرير ، وتَرَك الإخوةَ نازلين بأماكنهم .

قوله : { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدَاً } : كان ذلك سجودَ تحيةٍ ، فكذلك كانت عادتهم . ودَخَلَ الأَبَوان في السجود - في حقِّ الظاهر- لأنَّ قوله { وَخَرُّوا } إخبارٌ عن الجميع ، ولأنه كان عن رؤياه قد قال : { أني رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبَاً والشَّمْسَ وَالقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لي سَاجِدِينَ }

[ يوسف :4 ] وقال ها هنا : { هَذَا تَأْوِيلُ رُءيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقَاً } .

قوله جلّ ذكره : { أَحْسَنَ بي إِذْ أخرجني مِنَ السِّجِنْ وَجَاءَ بكُم مِّن البَدوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بيني وَبَيْن إخوتي إِنَّ رَبِىّ لَطِيفٌ لِّمَا يشاء إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ } .

شهد حسانه فَشَكَرَه . . كذلك مَنْ شهد النعمة شَكَرَ ، ومَنْ شهد المُنْعِمَ حمده .

وذَكَرَ حديثَ السجن - دون البئر- لطول مدة السجن وقلة مدة البئر .

وقيل لأن فيه تذكيراً بِجُرْمِ الإخوة وكانوا يخجلون . وقيل لأن { السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ } وقيل لأن كان في البئر مرفوقاً به والمبتدئ يُرفَقُ به وفي السجن فَقَدَ ذلك الرِّفق لقوة حاله ؛ فالضعيف مرفوقٌ به والقويُّ مُشَدَّدٌ عليه في الحال ، وفي معناه أنشدوا :

وأسررتني حتى إذا ماسَبَبْتَني *** بقولٍ يحل العُصْم سهل الأباطح20

تجافيتَ عنِّي حين لا لي حيلة *** وغادرت ما غادرت بين الجوانح

وفي قوله : { وَجَآءَ بِكُم مِّنَ البَدْوِ } إشارة إلى أنه كما سُرَّ برؤية أبويه سُرَّ بإخوته- وإنْ كانوا أهل الجفاء ، لأنَّ الأُخُوَّةَ سَبَقتْ الجفوة .

قوله : { مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بيني وَبَيْنَ إخوتي } أظهر لهم أمرهم بما يشبه العذر ، فقال كان الذي جرى منهم من نزعات الشيطان ، ثم لم يرض بهذا حتى قال { بيني وبين إخوتي } يعني إن وَجَدَ الشيطان سبيلاً إليهم ، فقد وجد أيضاً إليَّ حيث قال : { بيني وَبَيْنَ إخوتي } .

ثم نطق عن عين التوحيد فقال : { إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ } فبلطفه عصمهم حتى لم يقتلوني .