التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَرَفَعَ أَبَوَيۡهِ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ وَخَرُّواْ لَهُۥ سُجَّدٗاۖ وَقَالَ يَـٰٓأَبَتِ هَٰذَا تَأۡوِيلُ رُءۡيَٰيَ مِن قَبۡلُ قَدۡ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّٗاۖ وَقَدۡ أَحۡسَنَ بِيٓ إِذۡ أَخۡرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجۡنِ وَجَآءَ بِكُم مِّنَ ٱلۡبَدۡوِ مِنۢ بَعۡدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيۡطَٰنُ بَيۡنِي وَبَيۡنَ إِخۡوَتِيٓۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٞ لِّمَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ} (100)

والمراد بالعرش في قوله { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش } السرير الذي يجلس عليه .

أى : وأجلس يوسف أبويه معه على السرير الذي يجلس عليه ، تكريماً لهما ، وإعلاء من شأنهما .

{ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } أى : وخر يعقوب وأسرته ساجدين من أجل يوسف ، وكان ذلك جائزا في شريعتهم على أنه لون من التحية ، وليس المقصود به السجود الشرعى لأنه لا يكون إلا الله - تعالى - .

{ وَقَالَ } يوسف متحدثاً بنعمة الله { ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً . . . }

أى : وقال يوسف لأبيه : هذا السجود الذي سجدتموه لى الآن ، هو تفسير رؤياى التي رأيتها في صغرى ، فقد جعل ربى هذه الرؤيا حقاً ، وأرانى تأويلها وتفسيرها بعد أن مضى عليها الزمن الطويل .

قالوا : وكان بين الرؤيا وبين ظهور تأويلها أربعون سنة .

والمراد بهذه الرؤيا ما أشار إليه القرآن في مطلع هذه السورة في قوله { ياأبت إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } ثم قال يوسف لأبيه أيضاً : { وَقَدْ أَحْسَنَ بي } ربى - عز وجل - { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن } بعد أن مكثت بين جدرانه بضع سنين .

وعدى فعل الإِحسان بالباء مع أن الأصل فيه أن يتعدى بإلى ، لتضمنه معنى اللطف ولم يذكر نعمة إخراجه من الجب ، حتى لا يجرح شعور إخوته الذين سبق أن قال لهم : { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ } وقوله { وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو } معطوف على ما قبله تعدادا لنعم الله - تعالى - .

أى : وقد أحسن بى ربى حيث أخرجنى من السجن ، وأحسن بى أيضاً حيث يسر لكم أموركم ، وجمعنى بكم في مصر ، بعد أن كنتم مقيمين في البادية في أرض كنعان بفلسطين .

وقوله { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي } أى جمعنى بكم من بعد أن أفسد الشيطان بينى وبين إخوتى ، حيث حملهم على أن يلقوا بى في الجب .

وأصل { نَّزغَ } من النزغ بمعنى النخس والدفع . يقال : نزغ الراكب دابته إذا نخسها ودفعها لتسرع في سيرها .

وأسند النزغ إلى الشيطان ، لأنه هو الموسوس به ، والدافع إليه ، ولأن في ذلك ستراً على إخوته وتأدباً معهم .

وقوله { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم } تذييل قصد به الثناء على الله - تعالى - بما هو أهله .

أى : إن ربى وخالقى ، لطيف التدبير لما يشاء تدبيره من أمور عباده ، رفيق بهم في جميع شئونهم من حيث لا يعلمون .

إنه - سبحانه - هو العليم بأحوال خلقه علماً تاماً ، الحكيم في جميع أقواله وأفعاله