التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{۞وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا} (36)

قوله تعالى : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجانب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) العبودية تعني التذلل والخضوع لله وحده والإخلاص له في القول والفعل . حتى إن العبادة التي يشوبها رياء أو نقص في الإخلاص فإنها غير مقبولة إذ لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا لله تماما . قال سبحانه في هذا الصدد : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله ( ص ) قال : " عن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : " الرياء ، يقول الله يوم القيامة ، إذا جزى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء " . وبذلك يأمر الله سبحانه عباده أن يخلصوا له العبادة بعبادته وحده من غير شريك ذلك أن الإشراك بالله هو أكبر الكبائر وأعظم العظائم . والله تعالى أشد ما يغضب للإشراك به من قبل العباد كيفما كانت صورة الشرك ، وصور الشرك كثيرة وشتى فمنها أن يتخذ الناس مع الله آلهة أخرى كالأوثان والأوطان والملوك ، فكل أولئك أصناف من الشركاء التي يتخذ منها الناس آلهة تعبد مع الله أو من دونه . ومنها الرياء وهو إحساس خفي يخالط قلب الإنسان فيحرفه عن الإخلاص لله في القول والعمل ليبتغي بذلك إطراء الناس وثناءهم .

قوله : ( وبالوالدين إحسانا ) إحسانا مصدر لفعل محذوف تقديره أحسنوا . والله يأمر بالإحسان لجملة من الناس يأتي في طليعتهم أحقهم بالفضل والإجلال والتكريم ، وهما الوالدان . وقد قال العلماء : إن أحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان والتزام البر والطاعة والإذعان ذلكما اللذان قرن الله الإحسان إليهما بعبادته سبحانه ألا وهما الوالدان . ويبدو ذلك في قوله تعالى : ( أن اشكر لي ولوالديك ) وقد قال النبي ( ص ) : " رضا الرب في رضا الوالدين ، وسخطه في سخط الوالدين " . والإحسان للوالدين في هذه الآية لا يرد على سبيل الندب والاستحباب ، بل هو وارد مورد الفرضية والإيجاب . فإن طاعة الوالدين في غير معصية والإحسان إليهما وبرهما أمور أوجبها الله إيجابا على كل مسلم عاقل بالغ له أبوان أو أحدهما على قيد الحياة . وليس في معصيتهما والنكول عن البر بهما والإحسان إليهما أو أحدهما إلا ضرب من ضروب الجريمة الكبرى التي يسقط فيها الخاسرون التعساء ، وهي جريمة بشعة نكراء قد شدد الإسلام في الإغلاظ عليها بأنها إحدى السبل التي تؤدي بالعاقين العصاة إلى جهنم والعياذ بالله .

وتوجب الآية كذلك الإحسان لذوي القربى بعد أن عطفهم على الوالدين . وأولوا القربى هم الذين تربطهم بالمرء رابطة النسب على اختلاف درجاتهم ، سواء كانوا من أولي الأرحام أو العصبات وسواء كانوا من الورثة أو غير وارثين .

وكذلك توصي الآية بالإحسان للمساكين وهم جمع تكسير مفردة مسكين . وفي بيان حقيقة المسكين قد وردت أقوال كثيرة مختلفة لعل أصوبها وأرجحها أن المسكين هو الذي يملك من المال والمؤونة ما لا يكفيه . فهو بذلك من ذوي الحاجة الذين ليس لديهم ما يكفي لسد حاجتهم فهؤلاء يجدر بالمسلمين أن يحدبوا عليهم وأن يحسنوا إليهم بمختلف وجوه الإحسان .

وقوله : ( والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب ) الجار من الجوار وهو الأمان والعهد وإعطاء الرجل ذمة فيكون بها جاره فيجيره . يقال " هو في جواري " أي في عهدي وأماني{[745]} . وفي كلمة الجار ما يوحي بوجوب صون الجار من الضرر وكف الأذى عنه ثم الإحسان إليه باعتباره داخلا في الجوار لجاره أي في أمانه وعهده . وهذه مرتبة عظيمة يحتلها الجار من حيث وجوب الإحسان إليه ودفع الشر والبوائق عنه . وإسداء النصح والبر وكل وجوه البر والخير له .

وفي الآية تقسيم للجار إلى صنفين . أولهما : الجار ( ذي القربى ) أي القريب ، ثانيهما : ( الجار الجنب ) . وهو الغريب . وقيل المقصود بالجار ذي القربى المسلم . أما الجار الجنب فهو النصراني أو اليهودي وكل هؤلاء موصى بهم سواء كانوا أقرباء أم غرباء ، أو كانوا مسلمين أو غير مسلمين . وقد أوصى النبي ( ص ) بالجار حق التوصية وعلى نحو ينتزع الاهتمام البالغ بالجار وحقه فقد روى أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ( ص ) قال : " وما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " وروى البخاري ومسلم عن أبي شريح أن النبي ( ص ) قال : " والله لا يؤمن والله لا يؤمن " قيل : يا رسول الله ومن ؟ قال : " الذي لا يأمن جاره بوائقه " . وروى البزار عن جابر بن عبد الله عن النبي ( ص ) أنه قال : " الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق وجار له حقان وجار له حق واحد ، فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب له حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام . والجار الذي له حقان فهو الجار المسلم فله حق الإسلام وحق الجوار . والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار " .

أما في حد الجوار فقد قيل إن حده أربعون دارا من كل ناحية استنادا إلى الحديث الذي يقول : " ألا إن أربعين دارا جار ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه " وفي إكرام الجار أخرج مسلم عن أبي ذر أن النبي ( ص ) قال : " يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك " .

وذلكم حديث آخر قد جمع فيه النبي ( ص ) حقوق الجار وهو مروي عن معاذ بن جبل قال : " قلنا يا رسول الله ، ما حق الجار ؟ قال : " إن استقرضك أقرضته ، وإن استعانك أعنته ، وإن احتاج أعطيته ، وإن مرض عدته ، وإن مات تبعت جنازته ، وإن أصابه خير سرّك وهنيته ، وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزّيته ، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ، ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه ، وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها ، وإلا فأدخلها سرا لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده وهل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم الله " .

وقوله : ( والصاحب بالجنب ) قيل في تفسيره : هو الرفيق في السفر . وقيل : هي الزوجة ، وقيل : الضيف والقول الأول أرجح والله أعلم .

قوله : ( وابن السبيل ) قيل هو الضيف . وقيل هو الذي يمر بك مجتازا في السفر ، وهذا الأرجح .

قوله : ( وما ملكت أيمانكم ) هم المماليك أو الأرقاء يوصي الله سبحانه بالإحسان إليهم وألا يمسوا بأذى يكرهونه . وقد جعل النبي ( ص ) يوصي بهم في مرض موته ويقول : " الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم " جعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه . وفي البر بالمماليك وجوب الإحسان إليهم ورفع الأذى والظلم عنهم روى البخاري ومسلم عن أبي ذر أن النبي ( ص ) قال : " هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم " وقال عليه الصلاة والسلام : " لا يدخل الجنة خب ولا بخيل ولا سيء الملكة " أي الذي يسيء معاملة من عنده من مماليك .

قوله : ( إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ) . المختال هو ذو الخيلاء المستكبر الذي يجد نفسه عظيما ولا يقوم بحقوق أحد فهو يأنف من أقاربه وجيرانه إذا كانوا ضعفاء ، بل يأنف من ضعاف الناس ومحاويجهم فلا يحسن عشرتهم . قال صاحب الكشاف في المختال : التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه فلا يتحفى بهم ولا يلتفت إليهم .

وأما الفخور فهو الذي يعدد مناقبه ويمتن على عباد الله بما أعطاه الله{[746]} .


[745]:- القاموس المحيط جـ 1 ص 409.
[746]:- الكشاف جـ 1 ص 526 وتفسير الرازي جـ 10 ص 98- 100 وتفسير القرطبي جـ 5 ص 182- 190.