فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا} (36)

واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا( 36

{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } ( {[1385]} ) انقادوا لأمر المولى المستحق للعبادة والتذلل والطاعة دون سواه . { فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره } ( {[1386]} ) ؛ وفي هذا المعنى جاءت آيات محكمات كثيرة ، منها : ( . . ألا لله الدين الخالص . . ) ( {[1387]} ) ، ومنها : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين . . ) ( {[1388]} ) ومنها : ( . . فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) ( {[1389]} ) ؛ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " ؛ وفي الصحيح : قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : " أتدري ما حق الله على العباد " ؟ قال : الله ورسوله أعلم ، قال : " أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " ثم قال : " أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم " .

{ وبالوالدين إحسانا } ( {[1390]} ) أي : أمركم أن تعبدوه وحده ، وأمركم بالوالدين براً بهما ؛ أو : ذلوا لله بالطاعة وأفردوه بالربوبية ، واستوصوا بالوالدين إحسانا ؛ قال العلماء : فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان ، والتزام البر والطاعة له والإذعان ، مَن قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته ، وشكره بشكره . وهما الوالدان ؛ فقال تعالى : ( . . أن اشكر لي ولوالديك . . ) ( {[1391]} ) ؛ { وبذي القربى } وأمر سبحانه بصلة ذي القربى ، وهم ذوو القرابة من قِبَل الأب أو الأم ، { واليتامى } وهم الصغار الذين مات آباؤُهم ، وصانا ربنا بالإحسان إليهم والحنو عليهم ، لأنهم فقدوا العائل والحاني ؛ { والمساكين } المحاويج الذين لا يجدون ما ينفقون ؛ يقول اللغويون : المسكين : الذي لا شيء له ، أو : لا شيء له يكفي عياله ؛ قال يونس : الفقير أحسن حالا من المسكين ؛ وقال الأصمعي : المسكين أحسن حالا من الفقير ، لأن الله تعالى قال : ( أما السفينة فكانت لمساكين . . ) ( {[1392]} ) ، فأخبر أنهم مساكين وأن لهم سفينة تساوي جملة ، كما استدل علي بن حمزة على ذلك بقول المولى عز وجل : ( أو مسكينا ذا متربة ) ( {[1393]} ) ، فأكد عز وجل سوء حاله بصفة الفقر ، لأن المتربة : الفقر ، ولا يؤكد الشيء إلا بما هو أوكد منه . ا . ه .

وصانا ربنا البر الرحيم بالصدقة على هؤلاء ؛ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله- وأحسبه قال- وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر " ؛ { والجار ذي القربى والجار الجنب } قال ابن عباس وعكرمة وغيرهما : الجار ذي القربى : الذي بينك وبينه قرابة ، والجار الجنب : الذي ليس بينك وبينه قرابة ؛ وقال مجاهد : الجار الجنب : الرفيق في السفر ؛ وذهب البعض إلى أن الجار ذي القربى هو الذي قرب جواره ؛ روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " ؛ وروى عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن " قيل : يا رسول الله ، من ؟ قال : " الذي لا يأمن جاره بوائقه " ( {[1394]} ) .

ومن إكرام الجار ما رواه مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك " ؛ { والصاحب بالجنب } ( {[1395]} ) نقل عن علي وابن مسعود- رضي الله عنهما- أنهما قالا : هي المرأة ؛ ونقل( {[1396]} )عن سعيد بن جبير ، وقتادة ومجاهد : هو : الرفيق في السفر ؛ وقد تتناول الآية الجميع بالعموم ؛ { وابن السبيل }- هو صاحب الطريق . . . الضارب فيه فله الحق على من مر به محتاجا منقطعا به إذا كان سفره في غير معصية الله أن يعينه إن احتاج إلى معونة ، ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة ، وأن يحمله إن احتاج إلى حملان ؛ القول في تأويل قوله : { وما ملكت أيمانكم } يعني بذلك جل ثناؤه : والذين ملكتموهم من أرقائكم ، فأضاف الملك إلى اليمين ، . . . ، لأن مماليك أحدنا تحت يده ، وإنما نطعم ما تناوله أيماننا . . فأضيف ملكهم إلى الأيمان لذلك ، . . . فأوصى ربنا جل جلاله بجميع هؤلاء عباده إحسانا إليهم ، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم ، فحق على عباده حفظ وصية الله فيهم ، ثم حفظ وصية رسوله صلى الله عليه وسلم-( {[1397]} ) .

روى الشيخان- البخاري ومسلم- عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم " ؛ وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق " ؛ { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا }- فنفى سبحانه محبته ورضاه عمن هذه صفته ؛ أي : لا يظهر عليه آثار نعمه في الآخرة ؛ وفي هذا ضرب من التوعد ؛ والمختال : ذو الخيلاء ، أي الكبر ؛ والفخور الذي يعدد مناقبه كبرا ؛ . . . ؛ وخص هاتين الصفتين بالذكر هنا لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية ، فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم-( {[1398]} ) .


[1385]:مفعول به، أي: شيئا من الأشياء من جماد أو حيوان أو ملك أو إنسان أو جان؛ وإما مصدر أي: شيئا من الإشراك من غير فرق بين الشرك الواضح والخفي والأصغر والأكبر.
[1386]:هكذا أورد صاحب الجامع لأحكام القرأن، ثم تابع يستشهد بما روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله تعالى للملائكة ألقوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول الله عز وجل-وهو أعلم- عن هذا كان لغيري ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما كان ابتغي به وجهي"، وروى أيضا عن الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يأيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنما للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء". ويتابع صاحب الجامع لأحكام القرآن: حتى لقد قال بعض علمائنا: إن من تطهر تبردا أو صام محما لمعدته ونوى مع ذلك التقرب لم يجزه: لأنه مزج في نية دنيوية وليس لله إلا العمل الخالص.. وكذلك إذا أحس الرجل بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره؛ لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه خالصا لله تعالى. ا هـ.
[1387]:من سورة الزمر. من الآية 2.
[1388]:من سورة البينة. من الآية 4.
[1389]:من سورة الكهف. من الآية 11.
[1390]:قال بعض المفسرين: منصوب على الإغراء.
[1391]:سورة لقمان. من الآية 14.
[1392]:سورة الكهف. من الآية 79.
[1393]:من سورة البلد. الآية 16.
[1394]:عدوانه وظلمه وشروره، جمع بائقة؛ وهي الداهية.
[1395]:نقله عنهما صاحب تفسير القرآن العظيم.
[1396]:نقله عنهم صاحب جامع البيان.
[1397]:مما أورد الطبري.
[1398]:من الجامع لأحكام القرآن.