فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا} (36)

{ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ( 36 ) }

{ واعبدوا الله } يعني وحدوه وأطيعوه ، وعبادة الله عبارة عن كل فعل يأتي به العبد لمجرد الله ويدخل فيه جميع أعمال القلوب وأفعال الجوارح { ولا تشركوا به } العطف للتأسيس و { شيئا } إما مفعول به أي شيئا من الإشراك من غير فرق بين حي أو ميت وجماد وحيوان ، وإما مصدر أي شيئا من الإشراك من غير فرق بين الشرك الأكبر والأصغر ، والواضح والخفي .

{ و } أحسنوا { بالوالدين إحسانا } برا ولين جانب ، وقد ذل ذكر الإحسان إليهما بعد الأمر بعبادة الله والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما ، ومثله { أن أشكر لي ولوالديك } فأمر سبحانه بأن يشكرا معه وهو أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما ويسعى في تحصيل مرادهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة ، وقد وردت أحاديث كثيرة في حقوقهما وهي معروفة .

{ بذي القربى } أي صاحب القرابة وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه وإن كان بعيدا ، وقيل ذو رحمة من قبل أمه وأبيه ، وعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه ) أخرجه البخاري ومسلم{[470]} ، وقد تقدم نظيره في البقرة إلا أنه هنا قال بإعادة الباء وذلك لأنها في حق الأمة فالاعتناء بها أكثر ، وإعادة الباء تدل على زيادة التأكيد فناسب ذلك هنا بخلاف آية البقرة فإنها في حق بني إسرائيل .

{ واليتامى والمساكين } وقد تقدم تفسيرهم ، والمعنى وأحسنوا إليهم إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية ، إنما أمر بالإحسان إليهم لأن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز : الصغر وعدم المشفق ، والمسكين هو الذي ركبه ذل الفاقة والفقر فتمسكن لذلك .

وعن سهل ابن سعد قال : قال رسول اله صلى اله عليه وسلم ( أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى ، وفرج بينهما شيئا ) أخرجه البخاري{[471]} .

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال : وكالقائم الذي لا يفتر ، وكالصائم لا يفطر ) أخرجه الشيخان{[472]} .

{ والجاري ذي القربى } أي القريب منك جواره وقيل هو من له مع الجوار في الدر قرب في النسب أو الدين { والجار الجنب } يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع مذكرا كان أو مؤنثا ، قاله السمين أي المجانب وهو مقابل للجار ذي القربى والمراد من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة .

وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة ، وعلى أن الجوار حرمة مرعية مأمور بها .

وفيه رد على من يظن أن الجار مختص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل ، أو مختص بالقريب دون البعيد .

وقيل المراد بالجار الجنب هنا هو الغريب ، وقيل هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له ، وقرئ الجنب بفتح الجيم وسكون النون أي ذي الجنب وهو الناحية ، وقيل المراد بالجار ذي القربى المسلم ، وبالجار الجنب اليهودي والنصراني .

وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي عليه يصدق مسمى الجوار ويثبت صاحبه الحق فوري عن الأوزاعي والحسن أنه إلى حد أربعين دارا من كل ناحية وروي عن الزهري نحوه ، وقيل من سمع إقامة الصلاة ، وقيل إذا جمعتهما محلة وقيل من سمع النداء .

والأول أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون جار إلى حد كذا من الدور أو من مسافة الأرض ، كان العمل عليه متعينا ، وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة أو عرفا ، ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا ، ولا ورد في لغة العرب أيضا ما يفيد ذلك ، بل المراد بالجار في اللغة المجاور ويطلق على معان .

قال في القاموس : الجار المجاور ، والذي أجرته من أن يظلم ، والمجير والمستجير والشريك في التجارة وزوج المرأة وهي جارته ، وفرج المرأة وما قرب من المنازل والإست كالجارة والمقاسم والحليف والناصر انتهى .

قال القرطبي في تفسيره : وروى أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني نزلت محلة قوم وإن أقربهم إلي جوار أشدهم لي أذى فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا يصيحون على أبواب المساجد ألا إن أربعين دارا جار ، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه أه .

قال الشوكاني : ولو ثبت هذا لكان مغنيا عن غيره ، ولكنه رواه كما ترى من غير عزو له إلى أحد كتب الحديث المعروفة ، وهو إن كان إماما في علم الرواية فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور ، ولا نقل عن كتاب مشهور ، ولا سيما وهو يذكر الواهيات كثيرا كما يفعل في تذكرته انتهى .

أقول هذا الحديث بلفظه أخرجه الطبراني كما ذكر في الترغيب والترهيب وروى السيوطي في الجامع الصغير " الجوار أربعون دارا " أخرجه البيهقي عن عائشة . قال المناوي في شرحه : وروي عن عائشة أوصاني جبريل بالجار إلى أربعين دارا ، وكلاهما ضعيف{[473]} ، والمعروف المرسل الذي أخرجه أبو داود ، وهكذا نقل عن السيوطي ثم قال :

ولفظ مرسل أبي داود حق الجوار أربعون دارا هكذا وهكذا ، وأشار قداما ويمينا وخلفا ، قال الزركشي : سنده صحيح . قال ابن حجر : رجاله ثقات ، ورواه أبو يعلى عن أبي هريرة مرفوعا باللفظ المذكور ولكن سنده كما قال الزركشي ضعيف ، قال ابن حجر : فيه عبد السلام بن أبي الحبوب منكر الحديث انتهى .

فهذا يؤيد أصل ما نقله القرطبي والله أعلم .

وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة ، قال الله تعالى { لئن لم ينته المنافقون إلى قوله ثم لا يجارونك فيها إلا قليلا } فجعل اجتماعهم في المدينة جوارا ، وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها ، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة واصطلاحات متواضعة .

{ والصاحب بالجنب } الباء بمعنى { في } أو على بابها وهو الأولى ومعناه الملابسة أي حال كونه ملتبسا بالجنب أي بالقرب بجنبه ، قيل هو الرفيق في السفر قاله ابن عباس وسعيد ابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك ، وقال علي هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك .

وقال زيد ابن أسلم : هو جليسك في الحضر ، ورفيقك في السفر وامرأتك التي تضاجعك ، ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها وهو كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب أي بجنبك كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلم صناعة أو مباشرة تجارة أو نحو ذلك ، فإنه صحبك وحصل بجنبك ، ومنهم من قعد في مسجد أو مجلس أو غير ذلك مع أدنى صحبة بينك وبينه .

{ وابن السبيل } قال مجاد : هو لذي يجتاز بك مارا ، والسبيل الطريق فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه ، فالأول تفسيره بمن هو على سفر ، فإن على المقيم أن يحسن إليه ، وقيل هو المنقطع به في سفره للحج أو للغزو أو مطلقا ، والأظهر أن يقول المسافر من غير قيد الانقطاع ، وقيل هو الضيف قاله القارئ ، وقد وردت أحاديث صحيحة في إكرام الضيف وجائزته ثلاثة أيام في الصحيحين وغيرهما .

{ و } أحسنوا إلى { ما ملكت أيمانكم } من الأرقاء إحسانا ، وهم العبيد والإماء ، وقيل أعم فيشمل الحيوانات وهي غير الأرقاء أكثر في يد الإنسان منهم فغلب جانب الكثرة ، وأمر الله بالإحسان إلى كل مملوك آدمي وغيره قاله القارئ ، والأول أولى .

وقد أمر النبي صلى الله ليه وسلم بأنهم يطمعون مما يطعم مالكهم ، ويلبسون مما يلبس قال مجاهد : فما خولك الله فأحسن صحبته ، كل هذا أوصى الله به ، وعن مقاتل نحوه .

والإحسان إليهم أن لا يكلفهم ما لا يطيقونه ولا يؤذيهم بالكلام الخشن ، وأن يعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون إليه بقدر الكفاية ، وعن علي ابن أبي طالب قال : كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم{[474]} ) وقد ورد مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بر الوالدين وفي صلة القرابة وفي الإحسان إلى اليتامى والجار ، وفي القيام بما يحتاج إليه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا .

وقوله { إن الله } علة لمحذوف تقديره ولا تفتخروا عليهم لأن الله { لا يحب من كان مختالا } ذا الخيلاء وهو الكبر والتيه اسم فاعل لمن اختال يختال أي تكبر وأعجب بنفسه أي لا يحب من كان متكبر تائها على الناس { فخورا } مفتخرا عليهم ، والفخر والمدح للنفس والتطاول وتعديد المناقب والمحاسن .

وخص هاتين الصفتين لأنهما يحملان صاحبهما على الأنفة مما ندب الله إليه في هذه الآية يعني يأنف من أقاربه الفقراء ومن جيرانه الضعفاء وغيرهم ، ولا يلتفت إليهم ، ومن كان متكبرا لا يقوم بحقوق الناس ، وقد ورد في ذم الاختيال والفخر والكبر ما هو معروف .


[470]:مسلم2558- البخاري1044.
[471]:كتاب الطلاق باب25.
[472]:مسلم2982 البخاري2170.
[473]:ولعل الحديث المروي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة، فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك" رواه مسلم4/2052.
[474]:روى مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للعبد المملوك المصلح أجران" والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك. وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين".