التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (1)

مقدمة السورة:

ويقال { سورة المؤمنون } .

فالأول على اعتبار إضافة السورة إلى المؤمنين لافتتاحها بالإخبار عنهم بأنهم أفلحوا . ووردت تسميتها بمثل هذا فيما رواه النسائي : « عن عبد الله بن السائب قال : حضرت رسول الله يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة فخلع نعليه فوضعهما عن يساره فافتتح سورة المؤمنين فلما جاء ذكر موسى أو عيسى أخذته سعلة فركع » .

والثاني على حكاية لفظ { المؤمنون } الواقع أولها في قوله تعالى { قد أفلح المؤمنون } فجعل ذلك اللفظ تعريفا للسورة .

وقد وردت تسمية هذه السورة { سورة المؤمنين } في السنة . روى أبو داود : عن عبد الله بن السائب قال : صلى بنا رسول الله الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر موسى وعيسى أخذت النبي سعلة فحذف فركع .

ومما جرى على الألسنة أن يسموها سورة { قد أفلح } . ووقع ذلك في كتاب الجامع من العتبية في سماع ابن القاسم . قال ابن القاسم : أخرج لنا مالك مصحفا لجده فتحدثنا أنه كتبه على عهد عثمان بن عفان وغاشيته من كسوة الكعبة فوجدنا . . إلى أن قال . . وفي قد أفلح كلها الثلاث لله أي خلافا لقراءة : { سيقولون الله } . ويسمونها أيضا سورة الفلاح .

وهي مكية بالاتفاق . ولا اعتداد بتوقف من توقف في ذلك بأن الآية التي ذكرت فيها الزكاة وهي قوله { والذين هم للزكاة فاعلون } تعين أنها مدنية لأن الزكاة فرضت في المدينة . فالزكاة المذكورة فيها هي الصدقة لا زكاة النصب المعينة في الأموال . وإطلاق الزكاة على الصدقة مشهور في القرآن . قال تعالى { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة } وهي من سورة مكية بالاتفاق ، وقال { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة } ولم تكن زكاة النصب مشروعة في زمن إسماعيل .

وهي السورة السادسة والسبعون في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة { الطور } وقبل سورة { تبارك الذي بيده الملك } .

وآياتها مائة وسبع عشرة في عد الجمهور . وعدها أهل الكوفة مائة وثمان عشرة ، فالجمهور عدوا { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } آية ، وأهل الكوفة عدوا { أولئك هم الوارثون } آية وما بعدها آية أخرى ، كما يؤخذ من كلام أبي بكر ابن العربي في العارضة في الحديث الذي سنذكره عقب تفسير قوله تعالى { أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون } .

أغراض السورة

هذه السورة تدور آيها حول محور تحقيق الوحدانية وإبطال الشرك ونقض قواعده ، والتنويه بالإيمان وشرائعه .

فكان افتتاحها بالبشارة للمؤمنين بالفلاح العظيم على ما تحلوا به من أصول الفضائل الروحية والعملية التي بها تزكية النفس واستقامة السلوك .

وأعقب ذلك بوصف خلق الإنسان أصله ونسله الدال على تفرد الله تعالى بالإلهية لتفرده بخلق الإنسان ونشأته ليبتدئ الناظر بالاعتبار في تكوين ذاته ثم بعدمه بعد الحياة . ودلالة ذلك الخلق على إثبات البعث بعد الممات وأن الله لم يخلق الخلق سدى ولعبا .

وانتقل إلى الاعتبار بخلق السماوات ودلالته على حكمة الله تعالى .

وإلى الاعتبار والامتنان بمصنوعات الله تعالى التي أصلها الماء الذي به حياة ما في هذا العالم من الحيوان والنبات وما في ذلك من دقائق الصنع ، وما في الأنعام من المنافع ومنها الحمل .

ومن تسخير المنافع للناس وما أوتيه الإنسان من آلات الفكر والنظر .

وورد ذكر الحمل على الفلك فكان منه تخلص إلى بعثه نوح وحدث الطوفان . وانتقل إلى التذكير ببعثة الرسل للهدى والإرشاد إلى التوحيد والعمل الصالح ، وما تلقاها به أقوامهم من الإعراض والطعن والتفرق ، وما كان من عقاب المكذبين ، وتلك أمثال لموعظة المعرضين عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم فأعقب ذلك بالثناء على الذين آمنوا واتقوا .

وبتنبيه المشركين على أن حالهم مماثل لأحوال الأمم الغابرة وكلمتهم واحدة فهم عرضة لأن يحل بهم ما حل بالأمم الماضية المكذبة .

وقد أراهم الله مخائل العذاب لعلهم يقلعون عن العناد فأصروا على إشراكهم بما ألقى الشيطان في عقولهم .

وذكروا بأنهم يقرون إذا سئلوا بأن الله مفرد بالربوبية ولا يجرون على مقتضى إقرارهم أنهم سيندمون على الكفر عندما يحضرهم الموت وفي يوم القيامة .

وبأنهم عرفوا الرسول وخبروا صدقه وأمانته ونصحه المجرد عن طلب المنفعة لنفسه الإ ثواب الله فلا عذر لهم بحال في إشراكهم وتكذيبهم الرسالة ، ولكنهم متبعون أهواءهم معرضون عن الحق .

وما تخلل ذلك من جوامع الكلم .

وختمت بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغض عن سوء معاملتهم ويدفعها بالتي هي أحسن ، ويسأل المغفرة للمؤمنين ، وذلك هو الفلاح الذي ابتدئت به السورة .

افتتاح بديع لأنه من جوامع الكلم فإن الفلاح غاية كل ساع إلى عمله ، فالإخبار بفلاح المؤمنين دون ذكر متعلِّق بفعل الفلاح يقتضي في المقام الخطابي تعميم ما به الفلاح المطلوب ، فكأنه قيل : قد أفلح المؤمنون في كل ما رغبوا فيه .

ولما كانت همة المؤمنين منصرفة إلى تمكن الإيمان والعمَللِ الصالح من نفوسهم كان ذلك إعلاماً بأنهم نجحوا فيما تعلقت به هممهم من خير الآخرة وللحق من خيْر الدنيا ، ويتضمن بشارة برضى الله عنهم ووعداً بأن الله مكمل لهم ما يتطلبونه من خير .

وأكد هذا الخبر بحرف ( قد ) الذي إذا دخل على الفعل الماضي أفاد التحقيق أي التوكيد ، فحرف ( قد ) في الجملة الفعلية يفيد مفاد ( إنّ واللام ) في الجملة الاسميَّة ، أي يفيد توكيداً قويّاً .

ووجه التوكيد هنا أن المؤمنين كانوا مؤملين مثل هذه البشارة فيما سبق لهم من رجاء فلاحِهم كالذي في قوله : { وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } [ الحج : 77 ] ، فكانوا لا يعرفون تحقق أنهم أتوا بما أرضى ربهم ويخافون أن يكونوا فرطوا في أسبابه وما علق عليه وعده إياهم ، بلْهَ أن يعرفوا اقتراب ذلك ؛ فلما أخبروا بأن ما ترجَّوه قد حصل حقق لهم بحرف التحقيق وبفعل المضي المستعمل في معنى التحقق . فالإتيان بحرف التحقيق لتنزيل ترقبهم إياه لفرط الرغبة والانتظار منزلة الشك في حصوله ، ولعل منه : قد قامت الصلاة ، إشارة إلى رغبة المصلين في حلول وقت الصلاة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم « أرِحْنَا بها يا بلال » وشأن المؤمنين التشوق إلى عبادتهم كما يشاهد في تشوق كثير إلى قيام رمضان .

وحُذِف المتعلق للإشارة إلى أنهم أفلحوا فلاحاً كاملاً .

والفلاح : الظفَر بالمطلوب من عمل العامل ، وقد تقدم في أول البقرة . ونيط الفلاح بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب الأعظم في الفلاح فإن الإيمان وصف جامع للكمال لتفرع جميع الكمالات عليه .