التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المؤمنون

في السورة تنويه بصفات المؤمنين ومصيرهم السعيد ، وتوكيد بالبعث ، وتذكير بقدرة الله في خلق الإنسان والأكوان وما فيها من منافع وحقه في الشكر والإخلاص ، وسلسلة قصص بعض الأنبياء ومواقف أقوامهم منهم في صدد التمثيل والإنذار للكفار ، وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وتطمينهم ، وحملة على الكفار لاغترارهم بما يتمتعون به في الدنيا ، وتبكيت لهم على وقوفهم من النبي صلى الله عليه وسلم موقف العناد والاتهام مع معرفتهم له ومع ما فيه مهمته من الخير المحض لهم المجرد عن كل غرض ، وحكاية لبعض أقوالهم في إنكار البعث ، وردود قوية عليهم من مشاهد قدرة الله وملكوته واعترافهم بذلك ، وتصوير مصائر المؤمنين والكفار الأخروية بما فيه من التطمين والبشرى للأولين والرعب والهول للآخرين .

وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة . وهذا يبرر القول أنها نزلت متتابعة .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ فد أفلح المؤمنون ( 1 ) الذين هم في صلاتهم خاشعون ( 2 ) والذين هم عن اللغو 1 معرضون ( 3 ) والذين هم للزكاة فاعلون ( 4 ) والذين هم لفروجهم حافظون ( 5 ) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ( 6 ) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون2 ( 7 ) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون( 8 ) والذين هم على صلواتهم يحافظون ( 9 ) أولئك هم الوارثون ( 10 ) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ( 11 ) } [ 1-11 ] .

في الآيات بشرى بأسلوب التوكيد بالفلاح والفوز للمؤمنين الذين يتصفون بالصفات المذكورة فيها ، وتقرير بأن منازلهم الفردوس خالدين فيها ، وعبارتها واضحة .

والسلسلة في الجوامع القرآنية في وصف المؤمن وأخلاقه ، وبيان ما يجب عليه تجاه ربه وتجاه الناس ، وما يكون من الفلاح والنجاح والسعادة والطمأنينة وحسن العاقبة لأصحاب هذه الصفات التي هي جماع صفات الخير الروحية والأخلاقية والشخصية والاجتماعية ، وتنطوي على حث على الاتصاف بها كما تنطوي على تقرير أثر الإيمان في نفس صاحبه ؛ حيث يجعله يخشع في صلاته ؛ لأنه أمام ربه ويداوم على الصلاة لله فيظل يذكره ويمتنع نتيجة لذلك عن كل فحش وعبث ، ويؤتي الزكاة ويفعل كل ما هو حق وخير وبر وعدل وأمانة ووفاء . وهذه الصفات و الحثّ على الاتصاف بها والتزامها مما تكرر في القرآن المكي والمدني بحيث تكون من أسس الدعوة الإسلامية .

ولقد روى الترمذي حديثا{[1418]} في صدد هذه الآيات عن عمر رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سمع عند وجهه كدويّ النحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسرى عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال : اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنّا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وأرضنا وارض عنا ، ثم قال : أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ { قد أفلح المؤمنون } حتى ختم عشر آيات .

ولقد روى الطبري عن محمد بن سيرين ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى نظر إلى السماء ، فأنزلت الآية { الذين هم في صلاتهم خاشعون } فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد ) . وروى عن ابن سيرين أيضا عن أصحاب رسول الله ، ونص الرواية ( أن أصحاب رسول الله كانوا يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء حتى نزلت { قد أفلح المؤمنون } فجعلوا رؤوسهم بعد ذلك نحو الأرض ) وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ، ولكنها محتملة الصحة .

ولقد تعددت التعريفات التي أوردها أو رواها المفسرون للخشوع . منها أنه خشوع القلب والأطراف ، ومنها أنه التذلل والخضوع . ومنها أنه الاستشعار بالخوف والتواضع ، ومنها أنه غض البصر وعدم الحركة والتلفت ، وكل من هذه الأقوال واردة ووجيهة . ولقد أورد البغوي بعض الأحاديث النبوية في هذا الصدد . منها حديث عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال : هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) . وحديث عن أبي ذر رضي الله عنه قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يزال الله مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت ، فإذا التفت انصرف عنه ) . وحديث عن أنس بن مالك قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم ، فاشتد قوله حتى قال : لينتهين عن ذلك أو ليتخطفن أبصارهم ) . وحديث لم يذكر راويه جاء فيه : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه ) . وحديث عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصى ، فإن الرحمة تواجهه ) .

وجميع التعريفات الواردة وجيهة . والأحاديث وإن لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ، فإن عبارتها وروحها تجعل احتمال صحتها قوية . ولقد روى أصحاب السنن حديثا فيه تأييد عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الصلاة مثنى مثنى ، تشهّد في كل ركعتين وتخشّع وتضرّع وتمسكن وتقنع يديك يقول ترفعهما إلى ربك مستقبلا ببطونهما وجهك ، وتقول يا رب يا رب ومن لم يفعل فهي خداج ) {[1419]} . وروى أبو داود عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الرجل لينصرف من صلاته وما كتب له إلا عشرها تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها ){[1420]} . وروى أبو داود عن عقبة بن عامر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة ){[1421]} . وواضح أن الأحاديث والتعريفات استهدفت تأديب المسلم ليكون في صلاته منصرفا عن كل شيء متفرغا في قلبه وجسمه إلى الله عز وجل .

على أننا نرجح أن الآيات انطوت في الوقت نفسه على التنويه بالمؤمنين في العهد المكي ، وتقرير كونهم متصفين بهذه الصفات . وإذا صح ترجيحنا إن شاء الله ففيها صورة واقعية رائعة لأثر الإيمان القوي في ذلك الرعيل الأول رضوان الله عليهم .

وقد يؤيد ترجيحنا آيات عديدة وردت في سور عديدة من السور السابقة فيها تنويه بالمؤمنين وأخلاقهم وصفاتهم وأثر الإيمان فيهم . منها هذه الآيات في سورة الذاريات : { إن المتقين في جنات وعيون 15 آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين 16 كانوا قليلا من الليل ما يهجعون 17 وبالأسحار هم يستغفرون 18 وفي أموالهم حق للسائل والمحروم 19 } .


[1418]:انظر تفسير ابن كثير والتاج ج 4 ص 162 فضل التفسير.
[1419]:التاج 1 ص 175-176.
[1420]:المصدر نفسه
[1421]:المصدر نفسه.