المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُمۡ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِهِۦۖ وَنَحۡشُرُهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ عُمۡيٗا وَبُكۡمٗا وَصُمّٗاۖ مَّأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ كُلَّمَا خَبَتۡ زِدۡنَٰهُمۡ سَعِيرٗا} (97)

ثم رد الأمر إلى خلق الله تعالى واختراعه الهدى والضلال في قلوب البشر ، أي ليس بيدي من أمركم أكثر من التبليغ ، وفي قوله { فلن تجد لهم أولياء من دونه } وعيد ، ثم أخبر عز وجل أنهم يحشرون على الوجوه { عمياً وبكماً وصماً } ، وهذا قد اختلف فيه ، فقيل هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والهم والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات ، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينصفونه بحجة ، وقيل هي حقيقة كلها ، وذلك عند قيامهم من قبورهم ، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم ، فعند رد ذلك إليهم يرون النار ويسمعون زفيرها ويتكلمون بكل ما حكي عنهم في ذلك ، ويقال للمنصرف عن أمر خائفاً مهموماً : انصرف على وجهه ، ويقال للبعير : كأنما يمشي على وجهه ، ومن قال ذلك في الآية حقيقة ، قال : أقدرهم الله على النقلة على الوجوه ، كما أقدر في الدنيا على النقلة على الأقدام ، وفي هذا المعنى حديث قيل يا رسول الله : كيف يمشي الكافر على وجهه ؟ قال : «أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادراً أن يمشيه في الآخرة على وجهه » ؟ . قال قتادة{[7713]} : بلى وعزة ربنا ، وقوله { كلما خبت } أي كلما فرغت من إحراقهم فسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ، ثم تثور ، فتلك «زيادة السعير » قاله ابن عباس ، فالزيادة في حيزهم ، وأما جهنم فعلى حالها من الشدة لا يصيبها فتور ، وخبت النار معناه سكن اللهيب والجمر على حاله ، وخمدت معناه سكن الجمر وضعف ، وهمدت معناه طفيت جملة ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر : [ الهزج ]

أمن زينب ذي النار قبيل الصبح ما تخبو . . . إذا ما خبت يلقى عليها المندل الرطب{[7714]}

ومنه قول عدي بن زيد : [ الخفيف ]

وسطة كاليراع أو سرج المج . . . دل طوراً تخبو وطوراً تثير

ومنه قول القطامي :

فتخبوا ساعة وتهب ساعا . . . {[7715]}


[7713]:أخرجه أحمد، والبخاري ، ومسلم، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وأبو نعيم في المعرفة، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن أنس رضي الله عنه. ولفظه كما ذكره في الدر المنثور: قال: قيل: يارسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم. وأخرج ابن جرير مثله عن الحسن رضي الله عنه، وأخرج مثله أبو داود، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي أوله زيادة على ما هنا جاء فيها: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم، قيل: يا رسول الله، وكيف يمشون على وجوههم ... الحديث).
[7714]:البيتان في اللسان (ندل)، وقد نسبهما إلى عمر بن أبي ربيعة، وهما أيضا بالديوان (طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب) وقد صدرت سنة 1978، واعتمدت على أكثر الطبعات السابقة، وأشارت في الهامش إلى أن البيتين من الشعر المنسوب إلى عمر. ورواية البيت الثاني في اللسان والديوان: (إذا ما أوقدت). والشاهد هنا أن (أخمدت) من لفظ: "خمدت النار" بمعنى: سكن الجمر وضعف. والمندل: العود الرطب الذي يتبخر به، وهو المنذلي، نسب إلى بلد بالهند اسمها مندل، وقد استعملت هذه الكلمة في بيت كثير الذي يقول: بأطيب من أردان عزة موهنا وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
[7715]:هذا عجز بيت، والبيت بتمامه: وكنــــا كالحريق أصاب غــابــا فيخبو ساعة ويهب ساعا وهو في الديوان، وفي اللسان (سوع). قال: "الساعة جزء من أجزاء الليل والنهار، والجمع ساعات وساع، قال القطامي: وكنا كالحريق لدى كفاح. . . البيت"، ثم نقل عن ابن بري أن المشهور في صدر البيت: "كنا كالحريق أصاب غابا". وقد استشهد في (مجاز القرآن) أيضا بعجز هذا البيت، قال: "خبت: سكنت، ثم أنشد العجز" وقال: "ولم يذكر ها هنا جلودهم فيكون الخبو لها". والقطامي بفتح القاف وضمها: لقب غلب على الشاعر، وهو اسم من أسماء الصقر، معناه: المحدد البصر إلى الصيد، والاسم الأصلي للشاعر هو عمير بن شييم بن عمرو، وهو من بني تغلب، وخاله هو الأخطل الثغلبي الشهير.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُمۡ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِهِۦۖ وَنَحۡشُرُهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ عُمۡيٗا وَبُكۡمٗا وَصُمّٗاۖ مَّأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ كُلَّمَا خَبَتۡ زِدۡنَٰهُمۡ سَعِيرٗا} (97)

{ وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ }

يجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى } [ الإسراء : 94 ] جمعاً بين المانع الظاهر المعتاد من الهدى وبين المانع الحقيقي وهو حرمان التوفيق من الله تعالى ، فمن أصَرّ على الكفر مع وضوح الدليل لذوي العقول فذلك لأن الله تعالى لم يوفقه . وأسباب الحرمان غضب الله على من لا يُلقِي عقله لتلقي الحق ويتخذُ هواه رائداً له في مواقف الجد .

ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة { قل كفى باللَّه شهيداً بيني وبينكم } [ الإسراء : 96 ] ارتقاء في التسلية ، أي لا يحزنك عدم اهتدائهم فإن الله حرمهم الاهتداء لما أخذوا بالعناد قبل التدبر في حقيقة الرسالة .

والمراد بالهُدى الهدى إلى الإيمان بما جاء به الرسول .

والتعريف في { المهتد } تعريف العهد الذهني ، فالمعرف مساوٍ للنكرة ، فكأنه قيل : فهو مهتدٍ . وفائدة الإخبار عنه بأنه مهتد التوطئة إلى ذكر مقابله وهو { ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء } ، كما يقال من عَرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا فُلان .

ويجوز أن تجعل التعريف في قوله : { المهتد } تعريف الجنس فيفيد قصر الهداية على الذي هداه الله قصراً إضافياً ، أي دون من تريد أنتَ هداه وأضله الله . ولا يحتمل أن يكون المعنى على القصر الادعائي الذي هو بمعنى الكمال لأن الهدى المراد هنا هدي واحد وهو الهدي إلى الإيمان .

وحُذفت ياء { المهتد } في رسم المصحف لأنهم وقفوا عليها بدون ياء على لغة من يقف على الاسم المنقوص غيرِ المنون بحذف الياء ، وهي لغة فصيحة غير جارية على القياس ولكنها أوثرت من جهة التخفيف لثقل صيغة اسم الفاعل مع ثقل حرف العلة في آخر الكلمة . ورسمت بدون ياء لأن شأن أواخر الكلم أن ترسم بمراعاة حال الوقف . وأما في حال النطق في الوصل فقرأها نافع وأبو عَمرو بإثبات الياء في الوصل وهو الوجه ، ولذلك كتبوا الياء في مصاحفهم باللون الأحمر وجعلوها أدق من بقية الحروف المرسومة في المصحف تفرقة بينها وبين ما رسمه الصحابة كتّاب المصحف . والباقون حذفوا الياء في النطقِ في الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف . وذلك وإن كان نادراً في غير الشعر إلا أن الفصحاء يُجرون الفواصل مجرى القوافي ، واعتبروا الفاصلة كل جملة ثم بها الكلام ، كما دل عليه تمثيل سيبويه في كتابه الفاصلة بقوله تعالى : { والليل إذا يسر } [ الفجر : 4 ] وقوله : { قال ذلك ما كنا نبغ } [ الكهف : 64 ] . وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال } في سورة [ الرعد : 9 ] .

والخطاب في { فلن تجد لهم أولياء من دونه } للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن هذا الكلام مسوق لتسليته على عدم استجابتهم له ، فنفي وجدان الأولياء كناية عن نفي وجود الأولياء لهم لأنهم لو كانوا موجودين لوجدهم هو وعرفهم .

والأولياء : الأنصار ، أي لن تجد لهم أنصاراً يخلصونهم من جزاء الضلال وهو العذاب . ويجوز أن يكون الأولياء بمعنى متولي شأنهم ، أي لن تجد لهم من يُصلح حالهم فينقلهم من الضلال كقوله تعالى : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] .

وجُمع الأولياء باعتبار مقابلة الجمع بالجمع ، أي لن تجد لكل واحد ولياً ولا لجماعته ولياً ، كما يقال : ركب القوم دوابهم .

و{ من دونه } أي غيره .

{ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا }

ذكر المقصود من نفي الولي أو المَئال له بذكر صورة عقابهم بقوله : { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } الآية .

والحشر : جمع الناس من مواضع متفرقة إلى مكان واحد . ولما كان ذلك يستدعي مشيهم عدي الحشر بحرف ( على ) لتضمينه معنى ( يمشون . وقد فهم الناس ذلك من الآية فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يمشون على وجوههم ؟ فقال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم . والمقصود من ذلك الجمعُ بين التشويه والتعذيب لأن الوجه أرق تحملاً لصلابة الأرض من الرجل .

وهذا جزاء مناسب للجرم ، لأنهم روّجوا الضلالة في صورة الحق ووسموا الحق بسمات الضلال فكان جزاؤهم أن حولت وجوههم أعضاءَ مشي عِوضاً عن الأرجل . ثم كانوا { عميا وبكما } جزاء أقوالهم الباطلة على الرسول وعلى القرآن ، و { صمّاً } جزاء امتناعهم من سماع الحق ، كما قال تعالى عنهم : { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصّلت : 5 ] . وقال عنهم : { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } [ طه : 125 - 126 ] ، وقال عنهم : { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } [ الإسراء : 72 ] أي من كان أعمى عن الحق فهو في الحشر يكون محروماً من متعة النظر . وهذه حالتهم عند الحشر .

والمأوى محل الأوِيِّ ، أي النزول بالمأوى . أي المنزل والمقر .

وخبت النار خُبُوّاً وخَبْواً . نقص لهيبها .

والسعير : لهب النار ، وهو مشتق من سعّر النارَ إذا هيج وقودها . وقد جرى الوصف فيه على التذكير تبعاً لتذكير اللهب . والمعنى : زدناهم لهباً فيها .

وفي قوله : { كلما خبت زدناهم سعيراً } إشكال لأن نار جهنم لا تخبو . وقد قال تعالى : { فلا يخفف عنهم العذاب } [ البقرة : 86 ] . فعن ابن عباس : أن الكفرة وقود للنار قال تعالى : { وقودها الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] فإذا أحرقتهم النار زال اللهب الذي كان متصاعداً من أجسامهم فلا يلبثون أن يعادوا كما كانوا فيعود الالتهاب لهم .

فالخُبُوّ وازدياد الاشتعال بالنسبة إلى أجسادهم لا في أصل نار جهنم . ولهذه النكتة سلط فعل { زدناهم } على ضمير المشركين للدلالة على أن ازدياد السعير كان فيهم ، فكأنه قيل : كلما خبت فيهم زدناهم سعيراً ، ولم يقل : زدناها سعيراً .

وعندي : أن معنى الآية جارٍ على طريق التهكّم وبادىء الإطماع المسفر عن خيبة ، لأنه جعل ازدياد السعير مقترناً بكل زمان من أزمنة الخبُوّ ، كما تفيده كلمة ( كلما ) التي هي بمعنى كل زمان . وهذا في ظاهره إطماع بحصول خبو لورود لفظ الخبو في الظاهر ، ولكنه يؤول إلى يأس منه إذ يدل على دوام سعيرها في كل الأزمان ، لاقتران ازدياد سعيرها بكل أزمان خبوها . فهذا الكلام من قبيل التمليح ، وهو من قبيل قوله تعالى : { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } [ الأعراف : 40 ] ، وقول إياس القاضي للخصم الذي سأله : على من قَضيت ؟ فقال : على ابن أخت خالك .