جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَمَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُمۡ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِهِۦۖ وَنَحۡشُرُهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ عُمۡيٗا وَبُكۡمٗا وَصُمّٗاۖ مَّأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ كُلَّمَا خَبَتۡ زِدۡنَٰهُمۡ سَعِيرٗا} (97)

القول في تأويل قوله تعالى { وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىَ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مّأْوَاهُمْ جَهَنّمُ كُلّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } .

يقول تعالى ذكره : ومن يهد الله يا محمد للإيمان به ، ولتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك ، فوفّقه لذلك ، فهو المهتد الرشيد المصيب الحقّ ، لا من هداه غيره ، فإن الهداية بيده . ومن يضلل يقول : ومن يضلله الله عن الحقّ ، فيخذله عن إصابته ، ولم يوفّقه للإيمان بالله وتصديق رسوله ، فلن تجد لهم يا محمد أولياء ينصرونهم من دون الله ، إذا أراد الله عقوبتهم والاستنقاذ منهم . ونَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ يقول : ونجمعهم بموقف القيامة من بعد تفرّقهم في القبور عند قيام الساعة على وجوههم عُمْيا وَبُكْما وهو جمع أبكم ، ويعني بالبُكْم : الخُرْس ، كما :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَبُكْما قال : الخرس وَصُمّا وهو جمع أصمّ .

فإن قال قائل : وكيف وصف الله هؤلاء بأنهم يحشرون عميا وبكما وصما ، وقد قال ورأى المُجْرِمون النّارَ فَظَنّوا أنّهُمْ مُوَاقِعُوها فأخبر أنهم يرون ، وقال : إذَا رأتْهُمْ مِنْ مكانٍ بَعيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظا وزَفِيرا وإذَا أُلْقُوا مِنْها مَكانا ضَيّقا مُقَرّنِينَ دَعَوْا هُنالكَ ثُبُورا فأخبر أنهم يسمعون وينطقون ؟ قيل : جائز أن يكون ما وصفهم الله به من العَمي والبكم والصمم يكون صفتهم في حال حشرهم إلى موقف القيامة ، ثم يجعل لهم أسماع وأبصار ومنطق في أحوال أُخر غير حال الحشر ، ويجوز أن يكون ذلك ، كما روي عن ابن عباس في الخبر الذي :

حدثنيه عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله ونَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عمْيا وَبْكْما وصُمّا ثم قال : ورأى المُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوا وقال : سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظا وَزَفِيرا وقال دَعَوْا هُنالكَ ثُبُورا . أما قوله : عُمْيا فلا يرون شيئا يسرّهم . وقوله : بُكْما لا ينطقون بحجة . وقوله : صُمّا لا يسمعون شيئا يسرّهم . وقوله : مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ يقول جلّ ثناؤه : ومصيرهم إلى جهنم ، وفيها مساكنهم ، وهم وَقُودها ، كما :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مَأءْوَاهُمْ جَهَنّمُ يعني إنهم وقودها .

وقوله : كُلّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرا يعني بقوله خبت : لانت وسكنت ، كما قال عديّ بن زيد العبادي في وصف مزنة :

وَسْطُهُ كالْيَرَاعِ أوْ سُرُجِ المِجْدَلِ *** حِينا يَخْبُو وحِينا يُنِيرُ

يعني بقوله : يخبو السرج : أنها تلين وتضعف أحيانا ، وتقوى وتنير أخرى ، ومنه قول القطامي :

*** فَيَخْبو ساعَةً ويَهُبّ ساعا ***

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة عن تأويله . ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : كُلّما خَبَتْ قال : سكنت .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، كُلّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرا يقول : كلما أحرقتهم تسعر بهم حطبا ، فإذا أحرقتهم فلم تبق منهم شيئا صارت جمرا تتوهّج ، فذلك خُبُوّها ، فإذا بدّلوا خلقا جديدا عاودتهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن مجاهد حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس كُلّما خَبَتْ قال : خبوّها أنها تَسَعّر بهم حطبا ، فإذا أحرقتهم ، فلم يبق منهم شيء صارت جمرا تتوهج ، فإذا بُدّلوا خلقا جديدا عاودتهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : كُلّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرا يقول : كلما احترقت جلودهم بُدّلوا جلودا غيرها ، ليذوقوا العذاب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : كُلّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرا قال : كلما لان منها شيء .

حُدثت عن مروان ، عن جويبر ، عن الضحاك كُلّما خَبَتْ قال : سكنت . وقوله : زِدْناهُمْ سَعيرا يقول : زدنا هؤلاء الكفار سعيرا ، وذلك إسعار النار عليهم والتهابها فيهم وتأججها بعد خبوّها ، في أجسامهم .