وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 280 )
حكم الله تعالى لأرباب الربا برؤوس الأموال عند الواجدين للمال ، ثم حكم في ذي العسرة بالنظرة إلى حالة اليسر . قال المهدوي : وقال بعض العلماء هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين ، وحكى مكي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به في صدر الإسلام( {[2739]} ) .
قال القاضي أبو محمد : فإن ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم فهو نسخ ، وإلا فليس بنسخ ، و «العسرة » ضيق الحال من جهة عدم المال ومنه جيش العسرة ، والنظرة : التأخير ، والميسرة مصدر بمعنى اليسر ، وارتفع { ذو عسرة } ب { كان } التامة التي هي بمعنى وجد وحدث . هذا قول سيبويه وأبي علي وغيرهما ، ومن هنا يظهر أن الأصل الغنى ووفور الذمة ، وأن العدم طارىء حادث يلزم أن يثبت . وقال بعض الكوفيين ، حكاه الطبري : بل هي { كان } الناقصة والخبر محذوف ، تقديره { وإن كان } من غرمائكم { ذو عسرة } وارتفع قوله : { فنظرة } على خبر ابتداء مقدر ، تقديره فالواجب نظرة ، أو فالحكم نظرة .
قال الطبري : وفي مصحف أبي بن كعب : { وإن كان ذو عسرة } على معنى وإن كان المطلوب ، وقرأ الأعمش «وإن كان معسراً فنظرة » .
قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى : وكذلك في مصحف أبي بن كعب ، قال مكي والنقاش وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ { وإن كان ذو عسرة } بالواو فهي عامة في جميع من عليه دين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير لازم( {[2740]} ) ، وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان ، «فإن كان » بالفاء { ذو عسرة } بالواو ، وقراءة الجماعة نظرة بكسر الظاء ، وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن : «فنظْرة » بسكون الظاء ، وكذلك قرأ الضحاك ، وهي على تسكين الظاء من نظرة ، وهي لغة تميمية ، وهم الذين يقولون : كرم زيد بمعنى كرم ، ويقولون ، كبد من كبد ، وكتف في كتف ، وقرأ عطاء بن أبي رباح «فناظرة » على وزن فاعلة ، وقال الزجّاج : هي من أسماء المصادر ، كقوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } [ الواقعة : 2 ] وكقوله تعالى : { تظن أن يفعل بها فاقرة } [ القيامة : 25 ] ، وكخائنة الأعين( {[2741]} ) وغيره ، وقرأ نافع وحده «ميسُرة » بضم السين ، وقرأ باقي السبعة وجمهور الناس «ميسَرة » بفتح السين على وزن مفعلة ، وهذه القراءة أكثر في كلام العرب ، لأن مفعلة بضم العين قليل .
قال أبو علي : قد قالوا : مسربة ومشربة( {[2742]} ) ، ولكن مفعلة بفتح العين أكثر في كلامهم ، وقرأ عطاء بن أبي رياح أيضاً ومجاهد : «فناظره إلى ميسُره » على الأمر في «ناظره » وجعلا الهاء ضمير الغريم ، وضما السين من «ميسُره » وكسر الراء وجعلا الهاء ضمير الغريم ، فأما ناظره ففاعله من التأخير ، كما تقول : سامحه( {[2743]} ) ، وأما ميسر فشاذ ، قال سيبويه : ليس في الكلام مفعل ، قال أبو علي يريد في الآحاد ، فأما في الجمع فقد جاء قول عدي بن زيد : [ الرمل ]
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنّي مَأْلُكاً . . . أَنَّه قَدْ طالَ حَبْسي وانتظاري( {[2744]} )
بثين الزمي - لا - إنَّ - لا - إنْ لزمته . . . على كثرةِ الواشين أيّ معون
فالأول جمع مألكه ، والآخر جمع معونة( {[2745]} ) ، وقال ابن جني : إن عدياً أراد مالكة فحذف ، وكذلك جميل أراد أي معونة ، وكذلك قول الآخر : [ الراجز ]
«ليومِ روعٍ أو فِعال مكْرَمِ ( {[2746]} ) » . . . «أرادَ مَكْرُمَة » ، فحذف قال : ويحتمل أن تكون جموعاً كما قال أبو علي .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فإن كان ميسر جمع ميسرة فيجري مجرى هذه الأمثلة ، وإن كان قارئه أراد به الإفراد فذلك شاذ ، وقد خطأه بعض الناس ، وكلام سيبويه يرده ، واختلف أهل العلم : هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة : واقف على أهل الربا أو هو منسحب على كل ذي دين حال ؟
فقال ابن عباس وشريح : ذلك في الربا خاصة ، وأما الديون وسائر الأمانات فليس فيها نظرة ، بل تؤدى إلى أهلها( {[2747]} ) ، وكأن هذا القول( {[2748]} ) يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر والعدم الصريح ، فالحكم هي النظرة ضرورة ، وقال جمهور العلماء النظرة إلى الميسرة حكم ثابت في المعسر سواء كان الديْن ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة ، فسره الضحاك( {[2749]} ) .
وقوله تعالى : { وأن تصدقوا } ابتداء وخبره { خير } ، وندب الله تعالى بهذه الألفاظ إلى الصدقة على المعسر وجعل ذلك خيراً من إنظاره ، قاله السدي وابن زيد والضحاك وجمهور الناس . وقال الطبري وقال آخرون معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم ، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة أقوالاً لقتادة وإبراهيم النخعي لا يلزم منها ما تضمنته ترجمته ، بل هي كقول جمهور الناس ، وليس في الآية مدخل للغني( {[2750]} ) ، وقرأ جمهور القراء : «تصَّدقوا » بتشديد الصاد على الإدغام من تتصدقوا . وقرأ عاصم «وأن تصْدقوا » بتخفيف الصاد وفي مصحف عبد الله بن مسعود «وأن تصدقوا » بفك الإدغام .
وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال : كان آخر ما أنزل من القرآن آية الربا ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا ، فدعوا الربا والريبة . وقال ابن عباس : آخر ما نزل آية الربا( {[2751]} ) .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ومعنى هذا عندي أنها من آخر ما نزل( {[2752]} ) ، لأن جمهور الناس وابن عباس والسدي والضحاك وابن جريج وغيرهم ، قال : آخر آية قوله تعالى : { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } وقال سعيد بن المسيب : بلغني أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين ، وروي أن قوله عز وجل : { واتقوا } نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ، ثم لم ينزل بعدها شيء ، وروي بثلاث ليال ، وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات ، وأنه قال عليه السلام اجعلوها بين آية الربا وآية الدين ، وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية ، من البقرة .
عطف على قوله : { فلكم رؤوس أموالكم } لأنّ ظاهر الجواب أنّهم يسترجعونها معجّلة ، إذ العقود قد فسخت . فعطف عليه حالة أخرى ، والمعطوفُ عليه حالة مقدّرة مفهومة لأنّ الجزاء يدل على التسبّب ، والأصل حصول المشروط عند الشرط . والمعنى وإن حصل ذو عسرة ، أي غريم معسر .
وفي الآية حجة على أنّ ( ذُو ) تضاف لغير ما يفيد شيئاً شريفاً .
والنظِرة بكسر الظاء الانتظار .
والميسُرة بضم السين في قراءة نافع وبفتحها في قراءة الباقين اسم لليسر وهو ضدّ العسر بضم العين وهي مَفْعُلة كمَشرُقَة ومَشْرُبَة ومألُكَة ومَقْدُرة ، قال أبو علي ومَفْعَلة بالفتح أكثر في كلامهم .
وجملة فنظرة جواب الشرط ، والخبر محذوف ، أي فنظرة له .
والصيغة طلب ، وهي محتملة للوجوب والندب . فإن أريد بالعسرة العُدْم أي نفاد مالِهِ كلّه فالطلب للوجوب ، والمقصود به إبطال حكم بيع المعسر واسترقاقه في الدّين إذا لم يكن له وفاء . وقد قيل : إن ذلك كان حكماً في الجاهلية وهو حكم قديم في الأمم كان من حكم المصريين ، ففي القرآن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى : { ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك } [ يوسف : 76 ] . وكان في شريعة الرومان استرقاق المدين ، وأحسب أن في شريعة التوراة قريباً من هذا ، وروي أنّه كان في صدر الإسلام ، ولم يثبت . وإن أريد بالعسرة ضيق الحال وإضرار المدين بتعجيل القضاء فالطلب يحتمل الوجوب ، وقد قال به بعض الفقهاء ، ويحتمل الندب ، وهو قول مالك والجمهور ، فمن لم يشأ لم ينظره ولو ببيع جميع ماله لأنّ هذا حق يمكن استيفاؤه ، والإنظار معروف والمعروف لا يجب . غير أن المتأخرين بقرطبة كانوا لا يقضون عليه بتعجيل الدفع ، ويؤجلونه بالاجتهاد لئلاّ يدخل عليه مضرة بتعجيل بيع ما بِهِ الخلاصُ .
ومورد الآية على ديون معاملات الربا ، لكنّ الجمهور عمّموها في جميع المعاملات ولم يعتبروا خصوص السبب لأنّه لما أبطل حكم الربا صار رأس المال ديناً بحتاً ، فما عيّن له من طلب الإنظار في الآية حكم ثابت للدين كلُه . وخالف شريح فخَصّ الآية بالديون التي كانت على ربا ثم أبطل رباها .
وقوله : { وأن تصدقوا خير لكم } أي أنّ إسقاط الدين عن المعسر والتنفيس عليه بإغنائه أفضل ، وجعله الله صدقة لأنّ فيه تفريج الكرب وإغاثة الملهوف .
وقرأ الجمهور من العشرة { تصدقوا } بتشديد الصاد على أنّ أصله تتصدّقوا فقلبت التاء الثانية صاداً لتقاربهما وأدغمت في الصاد ، وقرأه عاصم بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين للتخفيف .