قوله تعالى : { فلما سمعت } ، راعيل ، { بمكرهن } ، بقولهن وحديثهن ، قاله قتادة والسدي . قال ابن إسحاق إنما قلن ذلك مكرا بها لتريهن يوسف ، وكان يوصف لهن حسنه وجماله . وقيل : إنها أفشت إليهن سرها واستكتمتهن فأفشين ذلك ، فلذلك سماه مكرا . { أرسلت إليهن } ، قال وهب : اتخذت مأدبة ، ودعت أربعين امرأة ، منهم هؤلاء اللاتي عيرنها . { وأعتدت } ، أي : أعدت ، { لهن متكئا } ، أي : ما يتكأ عليه . وقال ابن عباس و سعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد : متكأ أي : طعاما ، سماه متكأ لأن أهل الطعام إذا جلسوا يتكؤون على الوسائد ، فسمى الطعام متكأ على الاستعارة . يقال : اتكأنا عند فلان أي : طعمنا . ويقال : المتكأ ما اتكأت عليه لشرب أو لحديث أو لطعام ، ويقرأ في الشواذ متكأ بسكون التاء . واختلفوا في معناه : فقال ابن عباس : هو الأترج . ويروى عن مجاهد مثله . وقيل هو الأترج بالحبشة . وقال الضحاك : هو الربا ورد . وقال عكرمة : هو كل شيء يقطع بالسكين . وقال أبو زيد الأنصاري : كل ما يجز بالسكين فهو عند العرب متك ، والمتك والبتك بالميم والباء : القطع ، فزينت المأدبة بألوان الفواكه والأطعمة ، ووضعت الوسائد ودعت النسوة . { وآتت } : أعطت ، { كل واحدة منهن سكينا } ، فكن يأكلن اللحم حزا بالسكين . { وقالت } ، ليوسف ، { اخرج عليهن } ، وذلك أنها كانت أجلسته في مجلس آخر ، فخرج عليهن يوسف . قال عكرمة : كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم . وروي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسري بي إلى السماء يوسف كالقمر ليلة البدر " . قال إسحاق بن أبي فروة : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألأ وجهه على الجدران . { فلما رأينه أكبرنه } ، أعظمنه ، قال أبو العالية : هالهن أمره وبهتن . وقيل : أكبرنه أي : حضن لأجله من جماله . ولا يصح . { وقطعن } ، أي : حززن بالسكاكين التي معهن ، { أيديهن } ، وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج ، ولم يجدن الألم لشغل قلوبهن بيوسف . قال مجاهد : فما أحسسن إلا بالدم . وقال قتادة أبن أيديهن حتى ألقينها . والأصح كان قطعا بلا إبانة . وقال وهب : ماتت جماعة منهن . { وقلن حاش لله ما هذا بشراً } ، أي : معاذ الله أن يكون هذا بشرا . قرأ أبو عمرو : حاشى لله ، بإثبات الياء في الوصل ، على الأصل . وقرأ الآخرون بحذف الياء لكثرة ورودها على الألسن ، واتباع الكتاب . وقوله : { ما هذا بشراً } نصبت بنزع حرف الصفة ، أي : ببشر ، { إن هذا } ، أي : ما هذا ، { إلا ملك } ، من الملائكة ، { كريم } ، على الله .
وقوله تعالى : { فلما سمعت بمكرهن } الآية ، إنما سمي قولهن مكراً من حيث أظهرن إنكار منكر وقصدن إثارة غيظها عليهن ، وقيل : { مكرهن } أنهن أفشين ذلك عنها وقد كانت أطلعتهن على ذلك واستكتمتهن إياه ، وهذا لا يكون مكراً إلا بأن يظهرن لها خلاف ذلك ويقصدن بالإفشاء أذاها .
ومعنى { أرسلت إليهن } أي ليحضرن ، و { أعتدت } معناه : أعدت ويسرت ، و { متكأ } ما يتكأ عليه من فرش ووسائد ، وعبر بذلك عن مجلس أعد لكرامة ، ومعلوم أن هذا النوع من الكرامات لا يخلو من الطعام والشراب ، فلذلك فسر مجاهد وعكرمة «المتكأ » بالطعام ؛ قال ابن عباس : { متكأ } معناه مجلساً ، ذكره الزهراوي . وقال القتبي : يقال : اتكأنا عند فلان أي أكلنا .
وقوله : { وآتت كل واحدة منهن سكيناً } يقتضي أنه كان في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين ، فقيل كان لحماً ، وكانوا لا ينتهسون اللحم وإنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين ؛ وقيل : كان أترجاً{[6658]} ، وقيل : كان زماورد{[6659]} ، وهو من نحو الأترج موجود في تلك البلاد ، وقيل : هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط .
وقرأ ابن عباس ومجاهد والجحدري وابن عمر وقتادة والضحاك والكلبي وأبان بن تغلب «تُكاً » بضم الميم وتنوين الكاف . واختلف في معناه ، فقيل : هو الأترنج ، وقيل : هو اسم يعم ما يقطع بالسكين من الفواكه كالأترنج والتفاح وغيره ، وأنشد الطبري :
نشرب الإثم بالصواع جهاراً*** وترى المتك بيننا مستعارا{[6660]}
وقرأ الجمهور : «متَّكأ » بشد التاء المفتوحة والهمز والقصر ، وقرأ الزهري : «متّكا » مشدد التاء من غير همز - وهي قراءة أبي جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح ، وقرأ الحسن «متكاء » بالمد على إشباع الحركة .
و «السكين » تذكر وتؤنث ، قاله الكسائي والفراء{[6661]} ، ولم يعرف الأصمعي إلا التذكير .
وقولها : { اخرج } أمر ليوسف ، وأطاعها بحسب الملك ، وقال مكي والمهدوي : قيل : إن في الآية تقديماً وتأخيراً في القصص ، وذلك أن قصة النسوة كانت قبل فضيحتها في القميص للسيد ، وباشتهار الأمر للسيد انقطع ما بينها وبين يوسف .
قال القاضي أبو محمد : وهذا محتمل إلا أنه لا يلزم من ألفاظ الآية ، بل يحتمل أن كانت قصة النساء بعد قصة القميص وذلك أن العزيز كان قليل الغيرة بل قومه أجمعين ، ألا ترى أن الإنكار في وقت القميص إنما كان بأن قيل : { إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } [ يوسف : 28 ] وهذا يدل على قلة الغيرة ، ثم سكن الأمر بأن قال : { يوسف أعرض عن هذا } [ يوسف : 29 ] وأنت { استغفري } [ يوسف : 29 ] وهي لم تبق حينئذ إلا على إنكارها وإظهار الصحة ، فلذلك تغوفل عنها بعد ذلك ، لأن دليل القميص لم يكن قاطعاً وإنما كان أمارة ما ؛ هذا إن لم يكن المتكلم طفلاً .
وقوله : { أكبرنه } معناه : أعظمنه واستهولن جماله ، هذا قول الجمهور ، وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي عن أبيه عن جده : معناه : حضن ، وأنشد بعض الناس حجة لهذا التأويل : [ البسيط ]
يأتي النساء على أطهارهنّ ولا*** يأتي النساءَ إذا أكبرن إكبارا{[6662]}
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف من معناه منكور ، والبيت مصنوع مختلف - كذلك قال الطبري وغيره من المحققين ، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمه الله .
وقوله : { وقطّعن أيديهن } أي كثرن الحز فيها بالسكاكين ، وقال عكرمة : «الأيدي » هنا الأكمام ، وقال مجاهد هي الجوارح ، وقطعنها حتى ألقينها .
قال القاضي أبو محمد : فظاهر هذا أنه بانت الأيدي ، وذلك ضعيف من معناه ، وذلك أن قطع العظم لا يكون إلا بشدة ، ومحال أن يسهو أحد عنها ، والقطع على المفصل لا يتهيأ إلا بتلطف لا بد أن يقصد ، والذي يشبه أنهن حملن على أيديهن الحمل الذي كن يحملنه قبل المتك فكان ذلك حزاً ، وهذا قول الجماعة .
وضوعفت الطاء في { قطّعن } لكثرتهن وكثرة الحز فربما كان مراراً .
وقرأ أبو عمرو وحده «حاشى لله » وقرأ أبيّ وابن مسعود «حاشى الله » ، وقرأ سائر السبعة «حاش لله ، وفرقة » حشا{[6663]} لله «وهي لغة ، وقرأ الحسن » حاش لله{[6664]} «بسكون الشين وهي ضعيفة وقرأ الحسن - أيضاً - » حاش الإلاه «محذوفاً من » حاشى « . فأما » حاش «فهي حيث جرت حرف معناه الاستثناء ، كذا قال سيبويه ، وقد ينصب به ، تقول : حاشى زيد وحاشى زيداً ، قال المبرد : النصب أولى إذ قد صح أنها فعل بقولهم : حاش لزيد ، والحرف لا يحذف منه .
قال القاضي أبو محمد : يظهر من مجموع كلام سيبويه والمبرد أن الحرف يخفض به لا غير ، وأن الفعل هو الذي ينصب به ، فهذه اللفظة تستعمل فعلاً وحرفاً ، وهي في بعض المواضع فعل وزنه فاعل ، وذلك في قراءة من قرأ » حاشى لله{[6665]} «معناه مأخوذ من معنى الحرف ، وهو إزالة الشيء عن معنى مقرون به ، وهذا الفعل مأخوذ من الحشا أي هذا في حشى وهذا في حشى ، ومن ذلك قول الشاعر : [ المعطل الهذلي ] .
يقول الذي يمسي إلى الحرز أهله*** بأي الحشى صار الخليط المباين{[6666]}
ومنه الحاشية كأنها مباينة لسائر ما هي له ، ومن المواضع التي حاشى فيه فعل هذه الآية ، يدل على ذلك دخولها على حرف الجر ، والحروف لا تدخل بعضها على بعض ، ويدل على ذلك حذف الياء منها في قراءة الباقين » حاش «على نحو حذفهم من لا أبال ولا أدر ولو تر ، ولا يجوز الحذف من الحروف إلا إذا كان فيها تضعيف مثل : لعل ، فيحذف ، ويرجع عل ، ويعترض في هذا الشرط بمنذ وفد حذف دون تضعيف فتأمله .
قال القاضي أبو محمد : ومن ذلك في حديث خالد يوم مؤتة : فحاشى بالناس ، فمعنى » حاشى لله «أي حاش يوسف لطاعة الله أو لمكان من الله أو لترفيع الله له أن يرمي بما رميته به{[6667]} ، أو يدعى{[6668]} إله مثله لأن تلك أفعال البشر ، وهو ليس منهم إنما هو ملك - هكذا رتب أبو علي الفارسي معنى هذا الكلام ، على هاتين القراءتين اللتين في السبع{[6669]} - وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود ، فعلى أن » حاشى «حرف استثناء - كما قال الشاعر [ ابن عطية ] : [ الكامل ]
حاشى أبي ثوبان إنَّ به*** ضنّاً عن الملحاة والشتم{[6670]}
وتسكين الشين في إحدى قراءتي الحسن ، ضعيف ، جمع بين ساكنين ، وقراءته الثانية محذوفة الألف من «حاشى » .
قال القاضي أبو محمد : والتشبيه بالملك هو من قبيل التشبيه بالمستعظمات وإن كانت لا ترى .
وقرأ أبو الحويرث الحنفي والحسن «ما هذا بشر إن هذا إلا ملِك كريم » بكسر اللام في «ملِك » ، وعلى هذه القراءة فالكلام فصيح لما استعظمن حسن صورته قلن : ما هذا إلا مما يصلح أن يكون عبد بشراء ، إن هذا مما يصلح أن يكون ملكاً كريماً .
ونصب «البشر » من قوله : { ما هذا بشراً } هو على لغة الحجاز شبهت { ما } بليس ، وأما تميم فترفع ، ولم يقرأ به{[6671]} .
وروي أن يوسف عليه السلام أعطي ثلث الحسن ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه أعطي نصف الحسن ، ففي بعض الأسانيد هو وأمه ، وفي بعضها هو وسارة جدة أبيه{[6672]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا على جهة التمثيل ، أي لو كان الحسن مما يقسم لكان حسن يوسف يقع في نصفه ، فالقصد أن يقع في نفس السامع عظم حسنه على نحو التشبيه برؤوس الشياطين وأنياب الأغوال{[6673]} .
حقّ سمع أن يعدّى إلى المسموع بنفسه ، فتعديته بالباء هنا إما لأنه ضمن معنى أخْبِرت ، كقول المثل : « تسمع بالمعيدي خير من أن تراه » أي تخبر عنه . وإما أن تكون الباء مزيدة للتوكيد مثل قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ سورة المائدة : 6 ] .
وأطلق على كلامهن اسم المكر ، قيل : لأنهن أردن بذلك أن يبلغ قولهن إليها فيغريَها بعَرضها يوسف عليه السّلام عليهن فيريْنَ جماله لأنهن أحببن أن يرينه . وقيل : لأنهن قلنه خفية فأشبه المكر ، ويجوز أن يكون أطلق على قولهن اسم المكر لأنهن قلنه في صورة الإنكار وهن يُضمرن حسَدَها على اقتناء مثله ، إذ يجوز أن يكون الشغف بالعبد في عادتهم غير منكر .
و{ أعتدت } : أصله أعددت ، أبدلت الدال الأولى تاء ، كما تقدم عند قوله تعالى : { وأعتدنا للكافرين عذاباً مُهيناً } في سورة النساء ( 37 ) .
والمتّكأ : محل الاتكاء . والاتكاء : جِلسة قريبة من الاضطجاع على الجنب مع انتصاب قليل في النصب الأعلى . وإنما يكون الاتكاء إذا أريد إطالة المكث والاستراحة ، أي أحضرت لهن نمارق يتّكِئْن عليها لتناول طعام . وكان أهل الترف يأكلون متكئين كما كانت عادةً للرومان ، ولم تزل أسرّة اتكائهم موجودة في ديار الآثار . وقال النبي : أمّا أنَا فلا آكلُ متكئاً .
ومعنى { آتت } أمرت خدمها بالإيتاء كقوله : { يا هامان ابن لي صرحاً } [ سورة غافر : 36 ] .
والسكين : آلة قطع اللحم وغيره . قيل : أحضرت لهن أتْرُجاً ومَوْزاً فحضرن واتكأن ، وقد حذف هذان الفعلان إيجازاً . وأعطت كل واحدة سكيناً لقشر الثمار .
وقولها : { أُخرج عليهن } يقتضي أنه كان في بيت آخر وكان لا يدخل عليها إلا بإذنها . وعدّي فعل الخروج بحرف ( على ) لأنه ضمن معنى ( أُدخل ) لأن المقصود دخوله عليهن لا مجرد خروجه من البيت الذي هو فيه .
ومعنى { أكبرنه } أعظمنه ، أي أعظمن جماله وشمائله ، فالهمزة فيه للعدّ ، أي أعددنه كبيراً ، وأطلق الكبر على عظيم الصفات تشبيهاً لِوفرة الصفات بعظم الذات .
وتقطيع أيديهن كان من الذهول ، أي أجرين السكاكين على أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الفواكه . وأريد بالقطع الجُرح ، أطلق عليه القطع مجازاً للمبالغة في شدته حتى كأنه قَطْع قطعة من لحم اليد .
و { حاش لله } تركيب عربي جرى مجرى المثل يراد منه إبطال شيء عن شيء وبراءته منه . وأصل ( حاشا ) فعل يدل على المباعدة عن شيء ، ثم يعامل معاملة الحرف فيجَرُّ به في الاستثناء فيقتصر عليه تارة . وقد يوصل به اسم الجلالة فيصير كاليمين على النفي يقال : حَاشَا الله ، أي أحاشيه عن أن يكذب ، كما يقال : لا أقسم . وقد تزاد فيه لام الجر فيقال : حاشا لله وحاش لله ، بحذف الألف ، أي حاشا لأجله ، أي لخوفه أن أكذب . حكي بهذا التركيب كلام قالته النسوة يدل على هذا المعنى في لغة القبط حكاية بالمعنى .
وقرأ أبو عَمرو « حاشا لله » بإثبات ألف حاشا في الوصل ، وقرأ البقية بحذفها فيه . واتفقوا على الحذف في حالة الوقف .
وقولهن : { مَا هذا بشراً } مبالغة في فَوْته محاسن البشر ، فمعناه التفضيل في محاسن البشر ، وهو ضد معنى التشابه في باب التشبيه .
ثم شبّهنه بواحد من الملائكة بطريقة حصره في جنس الملائكة تشبيهاً بليغاً مؤكّداً . وكان القبط يعتقدون وجود موجودات علوية هي من جنس الأرواح العلوية ، ويعبرون عنها بالآلهة أو قضاة يوم الجزاء ، ويجعلون لها صوراً ، ولعلهم كانوا يتوخّوْن أن تكون ذواتاً حسنة . ومنها ما هي مدافعة عن الميت يوم الجزاء . فأطلق في الآية اسم الملك على ما كانت حقيقته مماثلة لحقيقة مسمّى الملك في اللغة العربية تقريباً لأفهام السامعين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما سمعت امرأة العزيز بمكر النسوة اللاتي قلن في المدينة ما ذكره الله عزّ وجلّ عنهنّ... عن السديّ: {فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ}، يقول: بقولهنّ...
عن ابن إسحاق، قال: لما أظهر النساء ذلك من قولهنّ: تراود عبدها مكرا بها لتريهنّ يوسف، وكان يوصف لهنّ بحسنه وجماله. {فَلَمّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنّ أرْسَلَتْ إلَيْهِنّ وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئا}...: أرسلت إلى النسوة اللاتي تحدّثن بشأنها وشأن يوسف.
{وأعْتَدَتْ}: أفعلت من العتاد، وهو العدّة، ومعناه: أعدّت لهنّ متكئا، يعني: مجلسا للطعام، وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد، وهو مفتعل من قول القائل: اتكأت، يقال: ألقِ له مُتّكَئا، يعني: ما يتكئ عليه...
عن سيعد: {وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَئا}، قال: طعاما وشرابا ومتكئا...
فهذا الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه من تأويل هذه الكلمة، هو معنى الكلمة وتأويل المتكأ، وأنها أعدّت للنسوة مجلسا فيه متكأً، وطعام، وشراب، وأترجّ. ثم فسّر بعضهم المتكأ بأنه الطعام على وجه الخبر عن الذين أعدّ من أجلهم المتكأ...
عن عطية: {وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً}، قال: الطعام...
قال الله تعالى ذكره مخبرا عن امرأة العزيز والنسوة اللاتي تحدّثن بشأنها في المدينة: {وآتَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ سِكّينا}، يعني بذلك جلّ ثناؤه: وأعطت كل واحدة من النسوة اللاتي حضرنها سكينا لتقطع به من الطعام ما تقطع به، وذلك ما ذكرت أنها آتتهنّ، إما من الأترجّ، وإما من البزماورد، أو غير ذلك مما يقطع بالسكين... وفي هذه الكلمة بيان صحة ما قلنا واخترنا في قوله: {وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً}؛ وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن إيتاء امرأة العزيز النسوة السكاكين، وترك ماله آتتهنّ السكاكين، إذا كان معلوما أن السكاكين لا تدفع إلى من دعي إلى مجلس إلا لقطع ما يؤكل إذا قطع بها، فاستغني بفهم السامع بذكر إيتائها صواحباتها السكاكين عن ذكر ماله آتتهنّ ذلك، فكذلك استغني بذكر اعتدادها لهنّ المتكأ عن ذكر ما يعتدّ له المتكأ مما يحضر المجالس من الأطعمة والأشربة والفواكه وصنوف الالتهاء لفهم السامعين بالمراد من ذلك، ودلالة قوله: {وأعْتَدَتْ لَهُنّ مُتّكَأً} عليه. فأما نفس المتكأ، فهو ما وصفنا خاصة دون غيره.
وقوله: {وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنّ فَلَمّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ}، يقول تعالى ذكره: وقالت امرأة العزيز ليوسف: {اخْرُجْ عَلَيْهِنّ}، فخرج عليهنّ يوسف، {فَلَمّا رأيْنَهُ أكْبَرْنَهُ}، يقول جلّ ثناؤه: فلما رأين يوسف أعظمنه وأجللنه...
وقوله: {وَقَطّعْنَ أيْدِيَهُنّ}؛ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معناه: أنهن حززن بالسكين في أيديهن، وهن يحسبن أنهنّ يقطعن الأترجّ...
عن ابن إسحاق، قال: قالت ليوسف: اخرج عليهنّ فخرج عليهن، فلما رأينه أكبرنه، وغلبت عقولهن عجبا حين رأينه، فجعلن يقطعن أيديهن بالسكاكين التي معهن ما يعقلن شيئا مما يصنعن، {وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ ما هَذَا بَشَرا}.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهن قطعن أيديهن حتى أبنّها، وهن لا يشعرن... عن مجاهد، قال: {قطّعن أيديهن}، حتى ألقينها...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عنهن أنهن قطعن أيديهن، وهن لا يشعرن لإعظام يوسف، وجائز أن يكون ذلك كان قطعا بإبانة، وجائز أن يكون كان قطع حزّ وخدش، ولا قول في ذلك أصوب من التسليم لظاهر التنزيل.
وقوله: {وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ}...كان بعض أهل العلم بكلام العرب يزعم أن لقولهم: «حاشى لله»، موضعين في الكلام: أحدهما: التنزيه، والآخر: الاستثناء، وهو في هذا الموضع عندنا بمعنى: التنزيه لله، كأنه قيل: معاذ الله...
عن مجاهد: {وَقُلْنَ حاشَ لِلّهِ}، قال: معاذ الله...
وقوله: {ما هَذَا بَشَرا}، يقول: قلن: ما هذا بشرا، لأنهنّ لم يرين في حسن صورته من البشر أحدا، فقلن: لو كان من البشر لكان كبعض ما رأينا من صورة البشر، ولكنه من الملائكة لا من البشر... وقوله: {إنْ هَذَا إلاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}، يقول: قلن ما هذا إلا ملَك من الملائكة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) أي بقولهن. المكر هو الأخذ في حال الأمن، وهو الخيانة في ما أؤتمن، واستكتم. فهذه كأنها استكتمت سرها وحبها ليوسف عن الناس، وأفشت ذلك النسوة في المدينة على أن يستكتمن عن الناس، فأفشين عليها ذلك، فذلك المكر الذي سمعت، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بِمَكْرِهِنَّ}: باغتيابهنّ وسوء قالتهن، وقولهنّ: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ومقتها، وسمي الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحالِ غيبة، كما يخفي الماكر مكره. وقيل: كانت استكتمتهنّ سرّها فأفشينه عليها. {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ}: دعتهنّ... {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} ما يتكئن عليه من نمارق، قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهنّ متكئات والسكاكين في أيديهنّ: أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهنّ فتقع أيديهنّ على أيديهنّ فيقطعنها، لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده، ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهنّ... وقيل: متكأ: مجلس طعام لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك. "نهى أن يأكل الرجل متكئاً "وآتتهنّ السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن. وقيل: {مُتَّكَئاً}: طعاماً، من قولك اتكأنا عند فلان: طعمنا، على سبيل الكناية؛ لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له تكأة يتكئ عليها...
{قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد: جرحتها. {حاشا} كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء... فمعنى «حاشا لله» براءة الله وتنزيه الله...
{مَا هذا بَشَرًا} نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه، لما عليه محاسن الصور، وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم، وذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما، وما ركز ذلك فيها إلا لأن الحقيقة كذلك، كما ركز في الطباع أن لا أدخل في الشر من الشياطين، ولا أجمع للخير من الملائكة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ودل بالفاء على أن كلامهن نقل إليها بسرعة فقال: {فلما سمعت} أي امرأة العزيز {بمكرهن} وكأنهن أردن بهذا الكلام أن يتأثر عنه ما فعلت امرأة العزيز ليرينه، فلذلك سماه مكراً {أرسلت إليهن} لتريهن ما يعذرنها بسببه فتسكن قالتُهن {وأعتدت} أي هيأت وأحضرت {لهن متكاً} أي ما يتكئن عليه من الفرش اللينة والوسائد الفاخرة، فأتينها فأجلستهن على ما أعدته لهن {وأتت كل واحدة} على العموم {منهن سكيناً} ليقطعن بها ما يحتاج إلى القطع مما يحضر من الأطعمة في هذا المجلس... هذا الظاهر من علة إتيانهن وباطنه إقامة الحجة عليهن بما لا يجدن له مدفعاً مما يتأثر عن ذلك {وقالت} ليوسف فتاها عليه الصلاة والسلام {اخرج عليهن} فامتثل له ما أمرته به كما هو دأبه معها في كل ما لا معصية فيه، وبادر الخروج عليهن {فلما رأينه} أي النسوة {أكبرنه} أي أعظمن يوسف عليه الصلاة والسلام جداً إعظاماً كربّهن {وقطعن} أي جرحن جراحات كثيرة {أيديهن} وعاد لومهن عذراً، والتضعيف يدل على التكثير، فكأن السكين كانت تقع على يد إحداهن فتجرحها فترفعها عن يدها بطبعها، ثم يغلبها الدهش فتقع على موضع آخر وهكذا {وقلن حاش} أي تنزيهاً عظيماً جداً {لله} أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال التي خلق بها مثل هذا. ولما كان المراد بهذا التنزيه تعظيمه، بينه بقولهن: {ما هذا بشراً} لأنه فاق البشر في الحسن جداً، وأعرض عن الشهوة من غير علة، نراها مانعة له لأنه في غاية القوة والفحولية، فكأنه قيل: فما هو؟ فقلن: {إن} أي ما {هذا} أي في هذا الحسن والجمال، وأعدن الإشارة دفعاً لإمكان الغلط {إلا ملك كريم}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلما سمعت بمكرهن} وكان من المتوقع أن تسمعه لما اعتيد بين هذه البيوتات، من التواصل بالزيارات، واختلاف الخدم من كل منها إلى الآخر، وهن ما قلنه إلا لتسمعه فإن لم يصل إليها عفوا، احتلن في إيصاله قصدا، فكان ما أردنه {أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا} أي دعتهن إلى الطعام في دارها، ومكرت بهن كما مكرن بها، بأن أعدت وهيأت لهن ما يتكئن عليه إذا جلسن من الكراسي والأرائك وهو المعتاد في دور الكبراء، قال تعالى في صفة الجنة {متكئين فيها على الأرائك} [الكهف: 31] وكان ذلك في حجرة مائدة الطعام، وأعطت كل واحدة منهن سكينا ليقطعن به ما يأكلن من لحم أو فاكهة، وروي عن بعض مفسري السلف تفسير المتكأ بالطعام الذي يتكأ عليه أي يعتمد عليه لأجل قطعه كالجامد والشديد القوام، دون الرخو كالموز الناضج من الفاكهة والحساء من الطعام، والاتكاء على الشيء هو التمكن بالجلوس عليه أو الاعتماد عليه باليد أو اليدين، قال في المصباح المنير: وتوكأ على عصاه اعتمد عليها واتكأ جلس متمكنا وفي التنزيل {وسررا عليها يتكئون} [الزخرف: 34] أي يجلسون وقال {وأعدت لهن متكأ} أي مجلسا يجلسن عليه. قال ابن الأثير: والعامة لا تعرف الاتكاء إلا الميل في القعود معتمدا على أحد الشقين، وهو يستعمل في المعنيين جميعا، يقال اتكأ إذا أسند ظهره أو جنبه إلى شيء معتمدا عليه، وكل من اعتمد على شيء فقد اتكأ عليه... وفي السنة أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأكل وهو متكئ.
{وقالت اخرج عليهن} أي أمرت يوسف بالخروج عليهن وكان في حجرة أو مخدع في داخل حجرة الطعام التي كن فيها محجوبا عنهن، ولو كان في مكان خارج عنها لقالت ادخل عليهن، فعلم من هذا أنها تعمدت أن يفجأهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه عالمة بما يكون لهذه الفجاءة من تأثير الدهشة، وهو ما حكاه التنزيل عنهن من قوله تعالى: {فلما رأينه أكبرنه} أي أعظمنه ودهشن لذلك الحسن الرائع، والجمال البارع، وغبن عن شعورهن {وقطعن أيديهن} بدلا من تقطيع ما يأكلن، ذهولا عما يعملن، بأن استمرت حركة السكاكين الإرادية بعد فقد الإرادة على ما كانت عليه قبل فقدها، ولكنها وقعت على أكف شمائلهن وقد سقط منها ما كان فيها من استرخائها بذهول تلك الدهشة فقطعتها أي جرحتها، ولولا استرخاؤها لأباتها، والظاهر أن مضيفتهن تعمدت جعلها مشحوذة فوق المعهودة في سكاكين الطعام مبالغة في مكرها بهن، لتقوم لها الحجة عليهن بما لا يستطعن إنكاره.
واختلف المفسرون في هذا القطع هل كان قطع إبانة انفصلت به الكف من المعصم أو الأصابع من الكف؟ أم قطع جرح أطلق فيه لفظ بدء الشيء على غايته من باب المبالغة، وهو ما يسميه علماء البيان بالمجاز المرسل؟ الأكثرون على الثاني وهو مستعمل إلى اليوم بالإرث عن قدماء العرب فيمن يحاول قطع شيء فتصيب السكين يده فتجرحها يقول كنت أقطع اللحم أو الحبل [مثلا] فقطعت يدي، كأنه يقول كاد ما أردته من قطع اللحم يكون بيدي مما أخطأت، ولا يقال فيمن جرح عضو منه أو من غيره كالطيب قاصدا جرحه إنه قطعه إلا إذا بالغ فيه، يقال أراد أن يجرح رجله ليخرج منها شظية نشبت فيها فقطعها، يريد أنه بالغ فكاد يقطعها، وقد أشار الزمخشري إلى مثل هذا القيد في استعمال القطع بمعنى الجرح فقال:"كما تقول كنت أقطع اللحم فقطعت يدي" يريد فأخطأت فجرحتها حتى كدت أقطعها.
{وقلن حاش لله ما هذا بشرا} أي قلن هذا تعجبا وتنزيها لله تعالى أن يكون خلق هذا الشخص العجيب في جماله وعفته من نوع البشر وهو ما لم يعهد له في الناس مثل، إنه ليس بشرا مثلنا {إن هذا إلا ملك كريم} أي ما هذا إلا ملك من الملائكة الروحانيين تمثل في هذه الصورة البديعة التي تدهش الأبصار وتخلب الألباب [كما كان يصور لهم صناعهم الرسامون والنحاتون أرواح الملائكة والآلهة بالصور والتماثيل لتكريمها وعبادتها]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا كذلك يقع ما لا يمكن وقوعه إلا في مثل هذه الأوساط. ويكشف السياق عن مشهد من صنع تلك المرأة الجريئة، التي تعرف كيف تواجه نساء طبقتها بمكر كمكرهن وكيد من كيدهن: (فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن، وأعتدت لهن متكأ، وآتت كل واحدة منهن سكينا، وقالت: اخرج عليهن. فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن، وقلن: حاش لله! ما هذا بشرا. إن هذا إلا ملك كريم. قالت: فذلكن الذي لمتنني فيه. ولقد راودته عن نفسه فاستعصم. ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين).. لقد أقامت لهن مأدبة في قصرها. وندرك من هذا أنهن كن من نساء الطبقة الراقية. فهن اللواتي يدعين إلى المآدب في القصور. وهن اللواتي يؤخذن بهذه الوسائل الناعمة المظهر. ويبدو أنهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان. فأعدت لهن هذا المتكأ. وآتت كل واحدة منهن سكينا تستعملها في الطعام -ويؤخذ من هذا أن الحضارة المادية في مصر كانت قد بلغت شأوا بعيدا، وأن الترف في القصور كان عظيما. فإن استعمال السكاكين في الأكل قبل هذه الآلاف من السنين له قيمته في تصوير الترف والحضارة المادية. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير الفاكهة، فاجأتهن بيوسف: (وقالت: اخرج عليهن).. (فلما رأينه أكبرنه).. بهتن لطلعته، ودهشن. (وقطعن أيديهن).. وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة. (وقلن حاش لله!).. وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع الله.. (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم). وهذه التعبيرات دليل- كما قلنا في تقديم السورة -على تسرب شيء من ديانات التوحيد في ذلك الزمان...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا} لما سمعت بأقوالهن اللائي يروونها أرسلت إليهن، {وأعتدت} أي هيأت {لهن متكأ}، أقامت لهن وليمة أو نحو ذلك، وسمي متكأ تسمية للشيء باسم مكانه، وهي تصور التنعم الذي كانت فيه، {وآتت} وأعطت {كل واحدة منهن سكينا}، ولعل.ذلك كان موجب الوليمة أو ما يشبهها. وسمت قولهن مكرا؛ لأنهن كن يشعنه، وكأنه تدبير السوء، ولأن بعضهن علمته من جانبها فما كتمن لها سرا، ولأنهن كن يوجهن اللوم إليها، ويتبادلن ذلك، وكأنه أمر يدبر، ولذا سمي مكرا. وبعد أن تهيأ المجلس، قالت ليوسف اخرج عليهن {وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله}. خرج عليهن، يتلألأ فيه نور الحق، الجمال الذي كساه الله إياه، فأخذه أبصارهن وقلوبهن، وحسهن، فقلن: {حاش لله} أي تنزيها له عن فعل البشر وقوله {لله}، لأنه هو الذي نزهه وكرمه، أو قلن كلمة التنزيه، لأنه خلق مثل هذا الملاك الكريم. و {أكبرنه}، أي جعلنه في موضع الإكبار والشرف، ولذهولهن من الروعة التي تبدى بها جرحن أيديهن، وعبر سبحانه عن الجرح بالقطع؛ لأن الجرح كان بليغا، ولأن الجرح في حد ذاته قطع لبعض البشرة، وقلن تلك الكلمة المعبرة عما في نفوسهم: {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم} بهرهن حتى ارتفعت مرتبة الإنسانية إلى مرتبة الملكية. ف {إن} هنا هي النافية أي: ما هو إلا ملك كريم. التفتت امرأة العزيز اليهن، وقد رأت الجروح تسيل بالدم من أيديهن، وما اعترى نفوسهن من إكبار له، واستهواء حتى حسبنه ملكا كريما، وليس إنسانا من الطين. قالت:...
والمكر هو ستر شيء خلف شيء، وكأن الحق ينبهنا إلى أن قول النسوة لم يكن غضبة للحق؛ ولا تعصبا للفضيلة، ولكنه الرغبة للنكاية بامرأة العزيز، وفضحا للضلال الذي أقامت فيه امرأة العزيز. وأردن –أيضا- شيئا آخر؛ أن ينزلن امرأة العزيز عن كبريائها، وينشرن فضيحتها، فأتين بنقيضين؛ لا يمكن أن يتعدى الموقف فيهما إلا خسيس المنهج. فهي امرأة العزيز، أي: أرفع شخصية نسائية في المجتمع، قد نزلت عن كبريائها كزوجة لرجل يوصف بأنه الغالب الذي لا يُغلب؛ لأن كلمة "العزيز "مأخوذة من المعاني الحسية. فيقال: "الأرض العزاز" أي: الأرض الصخرية التي يصعب المشي عليها، ولا يقدر أحد أن يطأها؛ ومن هذا المعنى جاءت كلمة "العزيز". فكيف بامرأة العزيز حين تصير مضغة في الأفواه؛ لأنها راودت فتاها وخادمها عن نفسه؛ وهو بالنسبة لها في أدنى منزلة، وتلك فضيحة مزرية مشينة. وقالت النسوة أيضا: {قد شغفها حبا.. (30)} [يوسف]...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَأَعْتَدَتْ}: أعدَّت وهيأت. {مُتَّكَئًا}: ما يتكأ عليه من فرش ونحوه. {وَقَطَّعْنَ}: جرحن. خطة الالتفاف {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} بما يتحدثن به عنها، وما يسعين له من تحقير لمكانتها في المجتمع، {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} في دعوة اجتماعية لا توحي بأيّ طابع مميّز، تماماً كما هي عادة النساء في اجتماعاتهن الخاصة، لمناسبة فرحٍ أو حزن، أو للأخذ بأسباب اللهو، أو التحدث في أيّ أمر طارئ، أو في أي شيء يملأ الفراغ، ويمتّع النفس، وكانت تريد مفاجأتهن، والالتفاف على مكرهن بمكر أشدّ في عملية ذكية لتوريطهن بما تورّطت به، ولإيقاعهنّ في خطيئة التمرد على تقاليد المجتمع الطبقية، فدعتهن إليها، {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا} في ما يوحي به ذلك من المجلس المميز الذي يستسلمن فيه للراحة والاسترخاء، ليأخذن حريتهن في الجلوس وفي الحديث في جوّ عائليّ حميم. {وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا} لتقطع به الفاكهة التي قدمتها إليهن في هذا المجلس، وهنا كانت المفاجأة التي لم يتهيّأن لها، فلم يكن في البرنامج أو هكذا يبدو أن يخرج يوسف إليهن، أو يجلس معهنّ، لأن التقاليد الطبقية لا تسمح بذلك. {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} في أمرٍ حاسمٍ صادر من السيدة لعبدها، فخرج إليهن، لأن موقعه يفرض عليه الطاعة لسيدته، فإذا بالزلزال الروحي والعاطفي والشهواني يهزّ كل كيانهنّ، ويسيطر على كل مشاعرهنّ، في اندفاعةٍ ساحقة، {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} لإشراقة وجهه وجمال صورته، وسحر ملامحه، وحلاوة شخصيته. الدخول المفاجئ لقد كان ذلك كله مفاجأة لهن، لأنهن كن يتصورنه على صورة العبيد الذين لا يملكون آية ميزة جمالية، ولهذا كنَّ ينكرن على امرأة العزيز أن تراود فتاها عن نفسه، وأن تعشقه، وقد لا يكون ذلك الإنكار ناشئاً من احترامهن للأخلاق والعفّة، لأن مجتمعهن الطبقي لا يعير ذلك أهمية، بل قد يكون ناشئاً من اعتبار موقفها شذوذاً في التصرّف، وانحرافاً في الذوق تستسلم معه المرأة الكبيرة، لعبد لا جمال فيه أو إثارة... أما الآن، فقد وجدن لها كل العذر، لأنهن وقفن أمام هذا الجمال الباهر العظيم في ذهول وانجذاب، فقدن معه السيطرة على مشاعرهن، ووعيهن، حتى لم يعدن يعقلن ماذا يفعلن، فعندما رأينه، تركن تقطيع الفاكهة بالسكاكين التي قدمت لهن لذلك، {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} من دون شعور، فإذا بالدماء تسيل، وهن لا يشعرن بالألم أمام سكرة النشوة بهذا الجمال، {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ} في تعبير يستنكر وصفه بالكلمات المألوفة التي تجعله من صنف البشر، كأنهن يقلن حاش لله أن يكون كذلك في ما يقوله الناس عنه، {مَا هَذَا بَشَرًا} لأن البشر لا يملكون مثل هذا الجمال الروحي الذي لا مثيل له، {إِنْ هَذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} في ما يتصورن به الملائكة من السموّ في الجمال الخارق الذي لا يدانيه جمال في الكون، لأنهم يمثلون أقصى حدود الروعة في التكوين...