السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَلَمَّا سَمِعَتۡ بِمَكۡرِهِنَّ أَرۡسَلَتۡ إِلَيۡهِنَّ وَأَعۡتَدَتۡ لَهُنَّ مُتَّكَـٔٗا وَءَاتَتۡ كُلَّ وَٰحِدَةٖ مِّنۡهُنَّ سِكِّينٗا وَقَالَتِ ٱخۡرُجۡ عَلَيۡهِنَّۖ فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ} (31)

{ فلما سمعت } زليخا { بمكرهنّ } ، أي : قولهن وإنما سمي ذلك مكراً لوجوه :

الأوّل أنّ النسوة إنما ذكرن ذلك الكلام استدعاءً لرؤية يوسف عليه السلام ، والنظر إلى وجهه ؛ لأنهنّ عرفن أنهنّ إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهنّ ليتمهد عذرها عندهنّ .

الثاني : أنّ زليخا أسرّت إليهنّ حبها ليوسف عليه السلام وطلبت منهنّ كتمان هذا السرّ فلما أظهرن السرّ كان ذلك مكراً .

الثالث : أنهنّ وقعنّ في غيبتها والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر { أرسلت إليهنّ } تدعوهنّ لتقيم عذرها عندهنّ . قال وهب : اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهنّ الخمس { وأعتدت } ، أي : أعددت { لهنَّ متكأً } ، أي : طعاماً يقطع بالسكين ، وهو الأترج وإنما سمي الطعام متكأً ؛ لأنه يتكأ عنده . قال جميل :

فظللنا بنعمة واتكأنا *** وشربنا الحلال من قلله

والمتكأ ما يتكأ عليه عند الطعام والشراب والحديث ؛ لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين ، ولذلك جاء النهي عنه في الحديث أن يأكل الرجل متكئاً . وقال صلى الله عليه وسلم : «لا آكل متكئاً » وقيل : إنها زينت البيت بألوان الفواكه والأطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة اللاتي عيرنها بحب يوسف عليه السلام { وآتت } ، أي : أعطت { كل واحدة منهنَّ سكيناً } ، أي : لتأكل بها ، وكانت عادتهنّ أن يأكلن اللحم والفواكه بالسكين { وقالت } زليخا ليوسف عليه السلام { اخرج عليهنّ } ، أي : النسوة ، وكان يخاف من مخالفتها فخرج عليهنّ يوسف وكانت قد زينته واختبأته في مكان .

وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بكسر التاء في الوصل ، والباقون بالضم ، وأمّا الابتداء فجميع القراء يبتدؤون الهمزة بالضم { فلما رأينه } ، أي : النسوة { أكبرنه } ، أي : أعظمنه ودهشن عند رؤيته ، واتفق الأكثرون على أنهنّ إنما أكبرنه بمحبتهنّ الجمال الفائق ، والحسن الكامل وكان يوسف قد أعطي شطر الحسن ، وقال عكرمة : كان فضل يوسف في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «رأيت يوسف ليلة أسري بي إلى السماء كالقمر ليلة البدر » ذكره البغويّ بغير سند ، وقال ابن إسحاق : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يتلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من الماء عليها ويقال : إنه ورث حسن آدم عليه السلام يوم خلقه الله تعالى قبل أن يخرج من الجنة ، وقيل : ورث الجمال من جدّته سارة ، وقيل : أكبرنه يعني حضن ، والهاء للسكت يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت ، وحقيقته دخلت في الكبر ؛ لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر ، وكأنّ أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله :

خف الله واستر ذا الجمال ببرقع *** فإن لحت حاضت في الخدور العواتق

وقيل : أمنين قال الكميت :

ولما رأته الخيل من رأس شاهق *** صهلن وأمنين المنيّ المدفقا

وقال الرازي : إنما أكبرنه ؛ لأنهنّ رأين عليه نور النبوّة وسيما الرسالة ، وآثار الخضوع والإخبات وشاهدن فيه شهادة الهيبة ، وهيبة ملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهنّ ، وكان الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة ، فوقع الرعب والمهابة منه في قلوبهنّ { وقطعنّ أيديهنّ } ، أي : جرحنها بالسكاكين التي معهنّ ، وهنّ يحسبن أنهنّ يقطعنّ الأترج ، ولم يجدن الألم من فرط الدهشة بيوسف ، وقال وهب : مات جماعة منهنّ { وقلن حاش لله } ، أي : تنزيهاً ، له الرسم بغير ألف بعد الشين .

وقرأ أبو عمرو في الوصل دون الوقف بألف بعد الشين والباقون بغير ألف وقفاً ووصلاً { ما هذا } ، أي : يوسف عليه السلام { بشراً } وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية ويدل عليها هذه الآية وقوله تعالى { ما هنّ أمّهاتهم } [ المجادلة ، 2 ] { إن } ، أي : ما { هذا إلا ملك كريم } ، أي : على الله لما حواه من الحسن الذي لا يكون عادة في النسمة البشرية ، فإنّ الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة .